الأوَّلُ: ظاهرةٌ، أو تُسمَّى مكتسَبةً، وهي التي يراها الناسُ في المادِّيَّاتِ والمحسوسات، والغالبُ هي مِن المكتَسَباتِ؛ كالغنائمِ والأسْرَى وظهورِ الأمرِ والغَلَبَةِ وبَسْطِ الأرضِ؛ وهذا ما يَربِط الناسُ انقيادَهُمْ به مهما كان إيمانُهُمْ قويَّا أو ضعيفًا، ويمتازُ أهلُ الصِّدْقِ واليقينِ بالانقيادِ للأوامرِ واجتنابِ النواهي ولو لم تَظهَرِ المنافِعُ والمصالِحُ محسوسةً.
الثاني: الباطنُة، وتُسمَّى مدفوعةً، وهي التي لا تُرَى؛ وإنَّما هي شرٌّ مدفوعٌ كان مقدَّرًا، فدُفعَ بامتثالِ الأمرِ واجتنابِ النهي، وكثيرٌ مِن امتثالِ الأوامرِ كالجهادِ وإعدادِ العُدَّةِ والقُوَّةِ لا يَلْمُسُ الناسُ أثَرَهُ؛ لأنَّ كثيرًا منه شرُّ مدفوعٌ لا خيرٌ مكتسَبٌ، فربَّما قاتَلَ المُسلِمونَ امتثالًا لأمرِ الله ولم يَفتحُوا أرْضًا ولا مِصْرًا، ولم يَغنَموا عَرَضًا مِن الدُّنيا، وقد دفَعَ اللهُ يقتالِهم ذلك عنهم مِن الشرورِ وتسلُّطِ الكفارِ عن بُلْدانِ الإسلامِ ما لا يخطُرُ بِبَالِ أحدٍ، مع أنَّهم لم يكسبُوا شيئًا ظاهرًا؛ وإنَّما دفَعَ اللهُ به شرًّا عظيمًا؛ فإنَّ الكفارَ لا يَقِفُونَ عندَ حَدِّ ولا مَطِمَع، في فإذا رأوْا بأسَ المُسلِمينَ في أقصى الأرض، كُسِرَت مطامعُهُمْ عن أدْنى بُلْدانِ المُسلِمينَ فضلًا عن قَلْبِها.
فلو تُركَتْ تلك الأوامرُ لعَدَمِ المكتسَبِ المحسوس، لَفَتَحَ اللهُ بابًا مِن الشرورِ المدفوعةِ لا طاقةَ للمُسلِمينَ بها، ولا أعظَمَ فتنةً في الدِّينِ ممَّن يعيشُ بي قلب بلادِ الإسلامِ آمِنًا في عِرْضِهِ ومالِهِ ودمِه، ثم يقعُ في مُقاتِلينَ في ثغُورِ بأطراف بلادِ الإسلامِ بحُجَّةِ أنَّهم لم يَكسِبُوا شيئًا، ولو تَرَكُوا ما هم فيه، لَمَا توقَّفَ العدوُّ على ما هو عليه، ولَمَّا أمِنَ على نفسِه، ولكنَّ للهِ تقديرًا وتدبيرًا يَدفَعُ به عن الأمَّةِ شَرًّا بأقوامِ صالِحِين؛ ليعيشَ غيرُهُمْ صلاحَ دِينِهم ودُنياهم وهم في غَفْلةِ ولا يَعلَمون ما لو فُتِحَ