وإن لم يَتساوَوْا في جَوْدَتِهِ وأثرِه؛ ولهذا جاءَتِ الآيةُ باعتبارِ العَدَد، ولم تأتِ باعتبارِ العُدَدِ؛ لأنَّ العُدَّةَ يُمكِنُ للمُسلِمينَ تحقيقُها بالصناعةِ والشراء، بخلافِ العَدَدِ؛ فإنْ لم يكنْ في المسلِمينَ العَدَدُ المشروطُ للثَّبات، فليس لهم شراؤُهُ ولا اتَّخاذُهُ مِن غيرِهم.
ولمَّا جرَتِ الآيةُ مَجْرَى الغالبِ والعادة، دَلَّ على عدمِ إخراجِ العُدَّةِ مِن أيوابِ الثَّبات، فالعُدَّةُ مُعتبَرةٌ كالعَدَد، ولكنَّ تبايُنَ المُسلِمينَ بها عن المشرِكينَ نادرٌ؛ فلم يُعلَّقْ بها حُكْمٌ، فلا يقولُ فقيهٌ: إنَّه يجبُ على المؤمنينَ إذا كانوا عُزْلًا مِن كلِّ سلاحٍ أنْ يَثبُتُوا في مُقابِلِ مِثلَيْهم أو أقلَّ مِن عدوِّهم الذي يَحمِلُ السلاحَ؛ لظاهرِ الآية، فيُقابِلُوهم بأيدِيهِم أو يَرسُوهم بالحَصَى والعَصَا وهم يَحمِلُونَ الرصاصَ وشِبْهَهُ، وعدمُ ذكرِ العُدَدِ في الآية، لا يَعني عدمَ اعتبارِه؛ وإنَّما لم تذكُرِ الآيةُ اشتراطَ العُدَّةِ؛ لأمورٍ، أعظَمُها - واللهُ أعلَمُ - أمرانِ:
الأوَّل: أنَّ هذا جرَى مجرَى الغالب، فالناسُ في كلِّ عصرٍ يَحمِلُونَ سلاحًا مِن جنسٍ واحدٍ، وإنْ لم يَتساوَوْا في نوعِهِ وإثخانِه؛ كما كان في الزمنِ الأولِ يتَّفقونَ على الرِّماحِ والسِّهامِ والسيوف، ولا يَتساوَوْنَ في حِدَّتِها وخِفَّتِها، ونفاذِها ومَدَاها، وكذلك اليومَ في الرصاصِ والقذائفِ ونوعِها ومَدَاها وأثرِها.
الثاني: أنَّ في اشتراطِ العُدَّةِ دعوةً لتواكُلِ المُسلِمينَ وركونِهم، فلو اشترَطَ نوعًا مِن العُدَّةِ يُساوِي المشرِكِينَ، لَتَواكَلَ المُسلِمونَ وترَكُوا الإعدادَ؛ حتى لا يَلحَقَهم التكليفُ؛ لأنَّ التكليفَ مرهونٌ بالعُدَّةِ؛ ولهذا جاء الأمرُ بالأعدادِ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [الأنفال: ٦٠]، وجاء الاشتراطُ للعَدَدِ لوجوبِ الثَّباتِ: ﴿فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾، وكأنَّ اللهَ لم يَعذِرْهم بالعُدَّةِ؛ لأنَّ الأصلَ إمكانُها والقدرةُ عليها