للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك بوصفِ الفاعِلينَ له بأئمَّةِ الكفر، لا مجرَّدِ أنَّهم كفَّارٌ، فقال: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}؛ لأنَّ مُظهِرَ الطعنِ في النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَدعُو الناسَ إلى الاقتداءِ له والتمرُّدِ على هَيْبةِ الإسلامِ والمُسلِمينَ؛ لهذا كانوا أئمَّةً في الكفرِ مِن جِهَتَيْنِ: مِن جهةِ تغليظِ كُفْرِهم؛ فالكفرُ دَرَكاتٌ، ومِن جهةِ أنَّهم قُدْوةٌ للكفارِ أن يُبْدُوا ما يُكِنُّونَهُ مِن حِقْدٍ وغِلٍّ على أهلِ الإسلامِ.

والعلماءُ يُفرِّقونَ بينَ أصلِ كفرِهِ الذي تمَّ العهدُ معَهُ وهو عليه، وبينَ طعنِهِ في الدِّينِ علانيَةً؛ ولذا قال مالكٌ: "مَن شتَمَ اللهَ مِن اليهودِ والنَّصَارى بغيرِ الوجهِ الذي كفَرَ به، قُتِلَ ولم يُستَتَبْ" (١).

وذلك أنَّ النَّصْرانيَّ كافرٌ بقولِهِ: "إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ"؛ وهذا قَدْرٌ معلومٌ مِن دِينِةِ عندَ عهدِه، يَجهَرُ به ويَعتقِدُهُ دِيَنًا له لو سألَهُ أحدٌ عنه، ولكنَّ الطعنَ الحادثَ منه في اللهِ ودِيِنِهِ وكتابِهِ ونبيِّهِ أمرٌ استَجَدَّ أُرِيدَ منه الطعنُ في دِينٍ وأمَّةٍ معلومةٍ؛ ولهذا قال تعالى: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ}.

وقد قتَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَعْبَ بنَ الأَشْرَفِ وقد كان معاهَدًا بلا خلافٍ، ونقَصَ عهدَهُ بطَعْنِهِ في الدِّينِ؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ؟ ! ) (٢).

ويدلُّ على أنَّ الطاعِنَ في الدِّينِ المجاهِرَ به لا أمانَ له، ولو بُذِلَ فهو مهدورٌ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرسَلَ لكعبِ بنِ الأشرَفِ خمسةً مِن أصحابِه: محمَّدَ بنَ مَسْلَمَةَ، وأبا نائِلةَ، وعبَّادَ بنَ بِشْرٍ، والحارثَ بنَ أَوْسٍ، وأبا عَبْسِ بنَ جَبْرٍ، أرسَلَهم لِيَقتُلُوهُ غِيلةً، وقد خدَعُوهُ وأَظهَروا له المُوافَقةَ حتَّى تمكَّنوا منه فقتَلُوه؛ وذلك الفعلُ منهم دليلٌ على أنه لا يُمضَى عهدٌ لمِثْلِهِ أصلًا، ولو جَرى فهو باطلٌ، وأمَّا مَن يَجري لمِثْلِهِ العهدُ، فلو


(١) "الشفا" للقاضي عياض (٢/ ٦٢٧).
(٢) أخرجه البخاري (٤٠٣٧)، ومسلم (١٨٠١).

<<  <  ج: ص:  >  >>