قد اختُلِفَ في ذلك، والأظهَرُ جوازُ تعذيِبهِ بشروطٍ ثلاثةٍ:
الشرطُ الأوَّلُ: أنْ يَغلِبَ على الظنَّ وجودُ أمرٍ لَدَيْه، ولا يكونَ ذلك مِن الشكِّ المجرَّدِ والظنِّ القليل، وهذا يُعرَفُ بحسَبِ حالِ الأسيرِ؛ فالجنودُ يَختلِفونَ عن القادةِ الكِبَار، وعَوَامُّهم يَختلِفونَ عن أُمَناءِ أَسْرارِهم، ولا يجوزُ تعذيبُ الواحدِ منهم بالظنِّ والتوهُّمِ المجرَّدِ لاستظهارِ ما يُخْفيهِ؛ فذلك محرَّمٌ.
الشرطُ الثاني: أن يكونَ ما يُخْفِيهِ ينفَعُ المُسلِمينَ لو أظهَرَهُ، وليس ممَّا يُحفيهِ ونَفْعُهُ قليلٌ لا يتعلَّقُ بنُصْرةِ المؤمِنينَ، ولا يَحفَظُ دِماءَهم، ولا يَصُونُ أعراضَهم.
ولا يخلو أسيرٌ مِن سِرٍّ يُخْفِيه، ولم يعذِّبِ النبيُّ ﷺ ولا أصحابُهُ مِن بَعْدِهِ أسيرًا على كلِّ ما يُخْفيهِ؛ لأنَّه ما كلُّ سرٍّ يُعذَّبُ عليه، ويُستَباحُ بمِثْلِهِ المحرَّمُ، فليس كلُّ مَن جازَ قتلُه جازَ تعذيبُه، فاللهُ أجازَ أَكْلَ لحم بهيمةِ الأنعامِ والطُّيورِ وغيرِها بقَتْلِها، وحرَّمَ تعذيبَها وشَدَّدَ في ذلك، فحِلُّ القتلِ لا يَعني حِلَّ التعذيب، وقد منَعَ مالكٌ مِن قتلِ الأسيرِ في وسطِهِ بسهمٍ أو رُمْحٍ؛ وإنَّما يكونُ بضربِ الرِّقَابِ؛ أعجَلَ له وأحسَنَ في قِتْلَتِه؛ ولهذا قبل لمالكٍ: أيُضرَبُ وَسَطُهُ؟ فقال:"قال اللهُ: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: ٤]، لا خيرَ في العبَثِ"(١)؛ فسمَّاهُ عبَثًا.
الشرطُ الثالثُ: ألَّا يَطُولَ التعذيبُ عن حَدِّهِ الذي يُناسِبُ حالَ الأسيرِ وما يُخْفيه، ولا يجوزُ ربطُ انقطاعِهِ بيانِ ما يَغلِبُ على الظنِّ أنه يُخْفيه، فقد يَدفَعُ التعذيبُ الأسيرَ إلى الإقرارِ بما لم يَفعَل، ويقولُ على نَفْسِهِ الكذبَ لِيَرتفِعَ عنه العذابُ، فيَأثَمُ مَن عذَّبَهُ مِن جهتَيْنِ: مِن جهةِ تعذيبِه، ومِن جهةِ حَمْلِهِ على أن يَقولَ غيرَ الحقّ، فيُؤخَذَ به.