للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويدلُّ ذلك على أنَّ المُسلِمينَ إنِ اختَلَفوا في مسألةٍ تَحتَمِلُ قولَيْنِ مُتساويَيْنِ في الشرعِ: أنَّ لهم أن يُرجِّحوا ما تَشْفَى به نفوسُهم، ويَذهَبُ به غيظُ قلوبِهم؛ كاختلافِهم في تعيينِ المصلحةِ مِن قتلِ الأَسْرَى وفي قلوبِ المُسلِمينَ على عدوِّهم غيظٌ؛ فلهم ترجيحُ قتلِهم على فِدَائِهم؛ تحقيقًا لِمَصْلَحةٍ اعتبَرها اللهُ، وهي ذَهَابُ الغيظِ وشِفاءُ النفْسِ.

ولو لم يكُنْ ذلك معتبَرًا في الشريعة، لم يذكُرْهُ اللهُ في الآيةِ ممتنًّا به على المؤمنينَ، ولكنَّه يكونُ في موضِعِهِ تابعًا لا متبوعًا، واللهُ أعلَمُ.

* * *

قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة: ١٧].

لمَّا منَعَ اللهُ المشرِكينَ مِن دخولِ المسجدِ الحرام، لم يَصِحَّ منهم عِمارتُهُ سواءٌ بعبادةٍ أو بتشييدٍ؛ لأنَّهم ليسوا مِن أهلِه؛ فقد منَعَهُمُ اللهُ مِن دخولِ الحرَم، فضلًا عن العبادةِ فيه بحجٍّ وعُمْرةٍ واعتكافٍ وسِقَايةِ حاجِّ.

وقد فُسِّرَتِ العِمَارةُ للمسجدِ الحرامِ بمعَنَيَيْنِ:

المعنى الأوَّلُ: عِمارتُهُ بالعبادةِ؛ مِن صلاةٍ وطوافٍ واعتكافٍ وصَدَقةٍ وغيرِ ذلك.

المعنى الثاني: عمارتُهُ بتشيدِهِ بالبناءِ والفَرْشِ والتنظيفِ والتطييبِ وغيرِ ذلك؛ وهذه عبادةٌ.

ولكنَّ المعنى الأولَ أخَصُّ مِن جهةِ كونِهِ عبادةً محضَةً؛ فإنَّ العمارةَ بالصَّلاةِ والطوافِ لا تُسمَّى عبادةً إلَّا إنْ كانتْ مِن موحِّدٍ، وأمَّا تشييدُهُ وبناؤُه، فقد يصِحُّ أن يقومَ به كافرٌ ويُسمَّى مسجِدًا، كما لو

<<  <  ج: ص:  >  >>