وأمَّا المسلمُ: فإمَّا أن يقَعَ في مفضولاتٍ تَشغَلُهُ عن فاضلاتٍ، وهذا أخَفُّ، وإمَّا أن يقَعَ في مستحَبَّاتٍ تَعُرُّهُ فيَترُكَ الواجبات، وقد يترُكُ مكروهاتٍ؛ يَظُنُّهُ أنه ورَعٌ، وهو واقعٌ في محرَّماتٍ، ويعظُمُ استدراجُ المسلمِ في ذلك بمقدارِ نصيبه مِن الجهلِ بتفاضُلِ الأعمال، وغَفْلَتِهِ عن عواقبِ الأفعال، وأخطَرُ ذلك عالِمٌ يَشغَلُ الناسَ بمفضولاتٍ، والناسُ في سَكْرَةِ المُوبِقاتِ والمُهلِكاتِ؛ كالشِّرْكيَّاتِ والبِدَعِ والمعاصي؛ ولهذا كان أكملُ العلمِ هو العِلْمَ بمراتبِ الأعمالِ فيما بينَها وتفاضُلِها؛ سواءٌ كانت خيرًا أو شرًّا، وأمَّا تمييزُ الخيرِ مِن الشرّ، فهو سهلٌ على كلِّ عاقلٍ.
ومِن هذا البابِ دخَلَ الضَّلَالُ على كفَّارِ قريشٍ؛ فظَنُّوا أنَّهم أتَوْا بأعمالٍ عظيمةٍ سبَقُوا الناسَ بها، وغرَّهُمُ الشَّيْطانُ أنَّهم اختَصُّوا بها، وغَفَلوا عن الكفرِ والشِّرْكِ الذي وقَعُوا فيه، وهو يُبِطِلُ كلَّ أعمالِهم تلك؛ كما رَوَى الطبريُّ، عن عليٍّ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ قال في قولِه: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾: "قال العبَّاسُ بن عبد المطَّلبِ حِينَ أُسِرَ يومَ بدرٍ: لَئِنْ كنتُم سبَقتُمونا بالإسلام والهجرةِ والجهاد، لقد كُنَّا نَعْمُرُ المسجدَ الحرامَ، ونَسْقِي الحاجَّ، ونفُكُّ العانيَ! قال اللَّهُ: ﴿أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ﴾، إلى قولِه: ﴿الظَّالِمِينَ﴾ يعني: أنَّ ذلك كان في الشِّرْك، ولا أَقْبَلُ ما كان في الشِّرْكِ"(١).
ومِن هذا البابِ أيضًا وقَعَ اللَّبْسُ على العامَّةِ في تمييزِ الظالِمِينَ والمنافِقِينَ مِن الصَّادِقينَ؛ فيَرَوْنَ آحادَ أعمالِ البِرِّ للمنافِقِينَ والظَّالِمِينَ مِن صدقةٍ وسُقْيَا وعمارةِ المساجدِ, ويَغفُلونَ عمَّا هم عليه مِن محادَّةٍ للهِ؛ مِن كُفْرٍ وشِرْكٍ وسَرِقةٍ وظُلْمٍ وبَغْيٍ، والعالِمُ العارِفُ يُدرِكُ مقامَ الضَّلالاتِ