للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ يرى أنَّ الأخذَ بظاهِرِ الآيةِ بلا دلالةٍ مِن السُّنَّةِ ولا قولِ أحدٍ مِن الصحابةِ: أنَّه تأويلُ أهلِ البِدَعِ، كما قال: "مَن تأوَّلَ القرآنَ بلا دلالةٍ مِن رسولِ الله ولا أحدٍ مِن الصحابةِ فهو تأويلُ أهلِ البدع؛ لأنَّ الآيةَ قد تكونُ خاصَّةً ويكونُ حكمُها حكمًا عامًّا، ويكونُ ظاهِرُها في العمومِ وإنما قُصِدَت لشيءٍ بعَيْنِه، ورسولُ اللهِ المعبِّرُ عن كتابِ اللهِ وما أرادَ، وأصحابُه أعلَمُ بذلك منَّا؛ لِمُشَاهَدَتِهم الأمرَ وما أُريدَ بذلك" (١).

ولم يَكُنِ الصحابةُ على مرتَبَةٍ واحدةٍ في العلمِ، كما أنَّهم لَيْسُوا على مرتبةٍ واحدةٍ في الفَضْلِ، والتفاضُلُ بينَهم بالمَنْزِلَةِ والمكانةِ شيءٌ، وتفاضُلُهُم في العِلْمِ شيءٌ آخَرُ، ومنِهم مَن كان تَقَدُّمُه في العِلمِ كتَقَدُّمِه في الفَضْلِ، كالخُلَفَاءِ الراشِدِينَ الأربعةِ؛ فقد جَمَعُوا السَّبْقَيْنِ: سَبْقَ العلمِ، وسَبْقَ الفَضْلِ، ومنهم مَن يتأَخَّرُ على غيرِه بالفضلِ ولكنَّه يسبِقُه بالعلمِ، كابنِ عبَّاسٍ وابنِ مسعودٍ وغيرِهما من الصحابةِ؛ فهُم قد يَفْضُلُونَ بعضَ العَشَرةِ المُبَشَّرِينَ بالجَنَّةِ في العِلم، وذلك فَضْلٌ مِن اللهِ يَقسِمُه بينَ عبادِه، فيُهَيِّئُ لبعضِهم أسبابًا تُقَدِّمُه على غيرِه من وجهٍ ويُقدِّمُ غيرَه عليه مِن وجهٍ، وإذا اختلَفَ الصحابة في حكمٍ مِن أحكامِ القرآنِ، وتساوَوْا منزِلةً بلا مُرَجِّحٍ، فيُقَدَّمُ القولُ الذي ذهَبَ إليه ابنُ عبَّاسٍ؛ لأنَّه مِن أكثَرِ الصحابةِ مشاوَرَةً لهم، ولدعاءِ النبيِّ له، قال ابنُ عبَّاسٍ: "إنْ كنتُ لَأَسْأَلُ عنِ الأمرِ الواحدِ ثلاثين مِن أصحابِ النبيِّ " (٢).


(١) "العدة في أصول الفقه" (٢/ ٥٢٧).
(٢) "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (٢/ ٤٢٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>