وقد اختُلِفَ في مُقابِلِ الجزاءِ المقصودِ مِن الجِزْيةِ؛ فالجزيةُ في أصلِها مشتقَّةٌ مِن الجزاء، كأنَّها جَزاءٌ لشيءٍ أو أشياءَ منهم، ولمَّا كان عمرُ لم يأخُذْهَا باسْمِ الجِزْية، وإنَّما باسمِ الصَّدَقةِ؛ دلَّ على أنَّ ثَمَةَ جزاءً فوقَ الصَّغَارِ للجِزْية، ولمَّا كان أصلُ أَخدِ المالِ على أيِّ حالٍ معَ تَرْكِ القتلِ يتضمَّنُ علوَّ يدٍ للمُسلِمينَ وظهورًا على الكافرينَ، كان الأصلُ في أَخْذِ الجِزْيةِ هو عِصْمةَ دمِهم وتَرْكَهُمْ بعدَ القُدْرةِ عليهم؛ كما هو قولُ مالكٍ, وكذلك فقد جعَلَ الشافعيّ سبَبَ أخدِ الجِزْيةِ هو عِصْمةَ دمِهم وسُكْناهم دارَ المُسلِمينَ، وجَرَيان حُكْمِ المُسلمينَ عليهم؛ قال الشافعيَّةُ:"وأشدُّ الصَّغَارِ على المرءِ: أنْ يُحكَمَ عليه بما لا يعتقِدُهُ، ويُضطَرَّ إلى احتمالِه"(١).
ومَن كان قادرًا عليهم، عرَضَ الجِزْيةَ عليهم مُقابِلَ تَرْكِهم في دارِه، مع القدرةِ عليهم؛ بحِمَايَتِهم لو نزَلَ بهم عدوُّ أنْ يَدفَعَ عنهم المُسلِمونَ ولا يَترُكوهم.
ولا يجوزُ للمُسلِمينَ مُصالَحَةُ عدوِّهم بلا جِزْيةِ ولا خَرَاجٍ وهم قادِرونَ عليهم بالإجماع، إلَّا في حالِ الحاجةِ والضرورةِ؛ كما فعَلَ النبيُّ ﷺ في الحُدَيْبِيَة، وإذا كَثُرَ الأعداءُ على المُسلِمينَ، وتكالَبَتْ عليهم الأممُ وهم في حالِ ضَعْفٍ وتفرُّقٍ، فلهم المصالَحةُ والمهادَنةُ بلا خَرَاجٍ ولا جِزية، ولكنه خِلافُ الأصل، يخَعمَلُ المُسلِمونَ على عدَمِ دَوَامِه، ولا إطالةِ أمَدِه.