والمُنافِقينَ والظَّلَمةِ في النبيِّ ﷺ وهم تحتَ سُلْطانِهِ، فلم يَنتصِرْ لنفسِه، كما وقَعَ فيه جماعةٌ مِن جَهَلةِ الأعرابِ، وذو الخُوَيْصِرَة، وبعضُ المُنَافِقينَ كعبدِ اللَّهِ بنِ أُبَيٍّ وغيرِه.
والوقوعُ في الحاكِمِ وعِرْضِهِ ممَّن تحتَ سُلْطانِه ليس على حالةٍ واحدةٍ، وإنَّما هو على حالَتَيْنِ:
الحالةُ الأُولى: إنْ وقَعَ أحدٌ في شخصِهِ مجرَّدًا، فأساء إليه أمامَهُ أو خلفَهُ، فلا ينبغي أن ينتصِرَ الحاكمُ والسُّلْطانُ لنفسِه؛ وإنَّما يعفو أو يَتغافَلُ! كما كان الأنبياءُ والنبيُّ ﷺ يفعل؛ لأنَّ الانتصارَ في مِثْلِ هذه الأشياءِ تتَّسِعُ دائرتُهُ؛ لكثرةِ أشخاصِ الناسِ وانفرادِ الحاكِمِ بشخصِه.
الحالةُ الثانيةُ: أن يكونَ الوقوعُ فيه لا لِذَاتِه؛ وإنَّما لِما يَدْعُو إليه مِن دِينِ اللَّهِ وحُكْمِهِ وبيانِ شرعِه؛ فإنَّ هذا يتحوَّلُ مِن الكلام في نفسِ الحاكمِ إلى الكلامِ في شريعتِهِ ودِينِهِ وعدلِه، وقد كان النبيُّ ﷺ يُفرِّقُ بينَ مَن يقَعُ في ذاتِهِ وبينَ مَن يقعُ في دِينِه، وبينَ مَن يقعُ في ذاتِهِ وبينَ مَن يقعُ في ذاتِه وهو يُريدُ دِينَه، وفي "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ عائشةَ؛ قالت:"وَاللَّهِ، مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ، حَتَّى تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمْ لِلَّهِ"(١).
فإِنْ كان الذي وقَعَ في دِينِهِ وشريعتِهِ وعدلِ اللَّهِ الذي يقومُ به في الناسِ -لم يَجهَرْ بذلك في الناس، ولم يَدْعُ الناسَ إلى قولِه-: فيُترَكُ كما ترَكَ النبيُّ ﷺ ذا الخُويَصِرَةِ وجَهَلةَ الأعرابِ حينَما قالوا ذلك أمامَهُ.
وإن كان وقوعُهُ في دِينِهِ وشريعتِهِ وعدلِ اللَّهِ الذي يقومُ به في الناسِ -علانيَةً وَيَدْعُو الناسَ إلى قولِهِ-: فذاك يَبْغي فتنةً في دِينِ الناسِ وإبعادًا لهم عن دِينِهم؛ ومِن هذا قَتْلُ النبيِّ ﷺ لبعضِ مَن وقَعَ فيه ويُؤذِيهِ