للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العربُ في الجاهليَّةِ مِن الوصيَّةِ بالبُكَاءِ والحُزِنِ عليه، واللَّطْمِ وَشَقِّ الجيوبِ، واستئجارِ النائحاتِ.

والمقصودُ من بَكَاءِ النبيِّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وغيرِهِ من الأنبياءِ: هو ما تُغلَبُ النَّفْسُ عليه مِن رحمةٍ وشفقةٍ وألمِ الفَقْدِ؛ ولذا قال -صلى اللَّه عليه وسلم- لمَّا بكَى ابنَ بنْتِهِ وسأَلَهُ سعدُ بنُ عُبادةَ: ما هذا؟ ! قال: (هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) (١).

* * *

* قال تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)} [يوسف: ٩٣].

أمَرَ يوسُفُ إخوتَهُ بالرجوعِ إلى أبيه، ووَضْعِ القميص على وجهِهِ والإتيانِ به، وظاهرُ الأمرِ: أنَّ الأصلَ أنْ يذهَبَ يوسُفُ بنفسِهِ إلى أبيهِ؛ لحقِّه عليه ولطُولِ غيابِهِ عنه، ولكنْ لمَّا كان يوسُفُ على وِلَايةٍ عامَّةٍ تَتَّصلُ بأسبابِ بلدٍ كاملٍ بمالِهِ ودماءِ أهلِهِ وأعراضِهِم وأموالِهِم، كان بقاؤُهُ أَولى مِن ذَهَابِه؛ فإنَّ ذَهابَهُ مصلحةٌ خاصَّةٌ تتحقَّقُ بغيرِه، وبقاؤُهُ مصلحةٌ عامَّةٌ لا تقوم غالبًا إلَّا به، ثمَّ إنَّ في ذَهَابِه غيابًا عن الناسِ واحتجابًا عنهم، وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ)؛ رواهُ أبو داودَ (٢).

وفي هذا: أنَّ حقَّ الرعيَّةِ على الحاكِمِ أَولى من حقِّ والدَيْهِ عليه، وأنَّ احتجابَهُ عن مَصَالحِهم أعظَمُ من احتجابِهِ عن والدَيْه؛ لظاهرِ تقديمِ


(١) أخرجه البخاري (١٢٨٤)، ومسلم (٩٢٣).
(٢) أخرجه أبو داود (٢٩٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>