وقد ظَهَرَ في الأزمِنَةِ المتأخِّرَةِ أقوالٌ شاذَّةٌ من هذا البابِ؛ بحُسْنِ قَصْدٍ مِن أقوامٍ، وسُوءِ قَصدٍ مِن آخَرِينَ، ودَخَلَ الضَّلَالُ والانحِرافُ في الدِّين، وخُرِقَ إجماعُ السلَفِ والأئمَّة؛ لإشباعِ أهواءِ أفرادٍ وجماعاتٍ وحُكَّام!
وقد قابَلَ هذه الفِئَةَ طائفةٌ غَلَتْ في التقليدِ، فلا تَرَى الخُروجَ عن مَذهَبِ إمامِها، فتَرَى نَسَبَ أقوالِه أصَحَّ أنسابِ الأقوال، ولو كان الدليلُ مع غيرِها ظاهرًا، فهؤلاءِ قَدَّمُوا الرِّجَالَ على الأدلَّةِ، وأُولئِكَ أَخَذُوا الأدلَّةَ بلا رجالٍ!
والأئمَّةُ وأتباعُهم لم يقولُوا بأقوالٍ لِيَتَعَصَّبَ لها الناسُ فيُقَلِّدُوهم ويَتْرُكُوا الأدلَّةَ، فقد قال أبو حنيفةَ لأبي يوسُفَ، والشافعيُّ للرَّبِيع، وأحمدُ لولَدِه عبدِ الله، ومالكٌ لابنِ القاسِمِ:"إذا صَحَّ الحديثُ فخُذْ به واتْرُكْ قَوْلِي"(١)، وحادَتْ طائفتانِ عن الصَّوَابِ وتوَهَّمُوا التعارُضَ بين فِقهِ الأدِلَّةِ وفِقهِ الأئمَّة، وكُلُّها مسالِكُ للتعليمِ لا للتعصُّبِ، ففِقْهُ الأئمةِ إنَّما خرَجَ مِن رَحِمِ الأدلَّةِ، وعلى العالِمِ تمحيصُ تلك الأدلَّةِ: صِحَّةً وضَعفًا، وظُهورًا وخَفاءً، وعمومًا وخُصوصًا، ونَسْخًا ومَنْسُوخًا، وإطلاقًا وتقييدًا، وقَطْعًا وظَنًّا، ونصًّا وفَهْمًا.
ومعرفةُ الأدلَّةِ لا يعني هَجْرَ مَذاهِبِ الأئمَّةِ والتمَذْهُبِ على طرائِقِهِم في التَّفَقُّهِ بلا تعصُّبٍ، ولا يعني عدمَ الخُروجِ عن التقليدِ لِمَنْ مَلَكَ القُدرةَ على التحرير.
(١) انظر أقوالَهم في: "الإنصاف, في بيان أسباب الاختلاف" للدهلوي (ص ١٠٤).