للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الجاهليَّةِ مِن الاختلاطِ بالرجالِ، وإظهارِ المَفاتِنِ بالسُّفُورِ، ووصَفَ ذلك بأنَّه جاهليَّةٌ لا عن عِلْمٍ وصلاحٍ.

وقد ذكَرَ بعضُ المفسِّرينَ كمُقاتلِ بنِ حَيَّانَ (١): أنَّ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأُولى -قَبلَ وجودِ العربِ- الذي نَهى اللَّهُ عنه في قولِه: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾: أنَّهنَّ كُنَّ يُلقِينَ الخِمارَ على رُؤُوسِهنَّ ولا يَشْدُدْنَهُ، ومع ذلك نَهى اللَّهُ عنه، وشَدَّدَ عليه، وذكَرَهُ مثالًا لفعلٍ سَوْءٍ، وقد جاء عن بعضِ السلفِ كابنِ عبَّاسٍ (٢) وغيرِه: أنَّ تبرُّجَ الجاهليَّةِ الأُولى كان بينَ نوحٍ وإدريسَ، ولو كان هناك تبُّرجٌ عامٌّ في التاريخِ بعدَهُ أسوأُ منه، لذكَرَه اللَّهُ مثالًا.

قال تعالى: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾: أمَرَ اللَّهُ أمَّهاتِ المؤمنينَ بإقامةِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاةِ، وطاعةِ اللَّهِ ورسولهِ؛ لبيانِ أنَّ العفافَ لا يكمُلُ إلَّا بعبادةٍ وطاعةٍ للَّهِ ورسولِه.

وفي هذه الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ الحِجابَ والعفافَ فِطْرةٌ، وما لم يُقرَنْ بعبادةٍ مِن صلاةٍ وزكاةٍ وغيرِ ذلك، فإنَّه يكونُ عادةً يسهُلُ تحوُّلُها؛ ولهذا أمَرَ اللَّهُ أمَّهاتِ المؤمنينَ ونساءَهم بالعبادةِ مع العفافِ، وكثيرٌ مِن البُلْدانِ التي طَرَأت عليها عاداتٌ فاسدةٌ مِن تبرُّجٍ وسفورٍ تَرى أنَّه ينسلِخُ مِن الحِجَابِ فيها نِسَاءُ العاداتِ، ويثبُتُ نِسَاءُ العبادات، وهذا نظيرُ إعفاءِ اللِّحَى؛ فقَد كانَتِ الرِّجالُ تَراهُ فِطرَةً، وجاءَ الإسلامُ العَرَبَ وهو يُعْفُونَ لِحَاهُم عادةً لا عبادةً، ولم تَكُنِ اللِّحَى علامَةً على دِيَانَةٍ؛ لأنَّها أصلٌ للمؤمِنِ والكافِرِ والصالِحِ والفاسِقِ، حتى اختَلَطَ العَرَبُ بالعَجَمِ؛ فتأَثَّرُوا بِهِم، فزالَتْ لِحَى العُرُوبَةِ؛ لأنَّها (عادةٌ)، وبَقِيَتْ لِحَى الإسلامِ لأنَّها (عِبادةٌ)، فأصبَحَتْ عندَ المتأَخِّرِينَ علامَةً على الدِّيانةِ، بخلافِ السابِقِينَ؛


(١) "تفسير ابن كثير" (٦/ ٤١٠).
(٢) "تفسير الطبري" (١٩/ ٩٨)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٩/ ٣١٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>