أنَّ الزكاةَ مشروعةٌ بمكةَ، ولكنَّ النزاعَ في فرضيَّتِها، ثمَّ إنَّه لا خلافَ حتى عندَ مَن قال بأنَّها فُرِضَتْ بمَكَّةَ أنَّ جِبَايتَها وتقديرَ نِصَابِها لم يُفرَضْ إلَّا في المدينةِ.
وقد ذهَبَ غيرُ واحدٍ مِن الفقهاءِ: إلى أنَّ فرضَ أصلِ الزكاةِ كان في المدينةِ في السَّنَةِ الثانيةِ مِن الهجرةِ؛ وإليه ذهَبَ النوويُّ وغيرُه، والوعيدُ الواردُ في تاركِ الزكاةِ في السوَرِ المكيَّةِ هو لجاحدِ التشريعِ لا للبخيلِ؛ وذلك أنَّ المُسلِمينَ بمكةَ قِلَّةٌ وغالبُهم أهلُ فقرٍ وضَعْفٍ، وأمَّا أهلُ الغِني والسيادةِ، فلم يُسْلِمُوا أصلًا إلَّا ما ندَرَ، وكلُّهم يُزَكُّونَ، فليس بمكةَ قبلَ الهجرةِ مؤمِنٌ فاسِقٌ ولا منافِقٌ، فمَن آمَنَ فإنَّه يُؤمِنُ بكليَّتِه؛ لِشِدَّةِ ما يُلاقِيهِ مِن نُكْرانِ قومِهِ وهَجْرِهم وتسلُّطِهم بالعذابِ، ولا يُتصوَّرُ مؤمِنٌ بالرسالةِ قبلَ الهجرةِ تاركٌ للزَّكاةِ بخلًا.
وزكاةُ الفِطرِ فُرِضَتْ بعدَ رمضانَ، ورمضانُ فُرِضَ في المدينةِ بلا نزاعٍ، وفي هذا الحديثِ أنَّ الزكاةَ بعدَهُ، ولعلَّ فرضيَّتَها يُقصَدُ بها بيانُ مقاديرِها ونِصابِها وجِبايتُها، وقد تكونُ مفروضةً قبلَ ذلك بلا تقديرٍ، وكان صرفُها موكولًا إلى أصحابِها.
ويعضُدُ ما جاء في حديثِ سعدٍ -أنَّ الزكاةَ متأخِّرةٌ-: ما رواهُ الطبريُّ؛ مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبَّاسٍ؛ في قولِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: ٤] قال: السكينةُ: الرحمةُ؛ ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: ٤]؛ قال: إنَّ اللَّهَ جلَّ ثناؤُه بعَثَ نبيَّه
(١) أخرجه أحمد (٦/ ٦)، والنسائي (٢٥٠٧)، وابن ماجه (١٨٢٨).