للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك فإنَّ تغليبَ استصلاحِ البُغاةِ لا يَعني تَرْكَ قتالِهم؛ وإنَّما كان التغليبُ؛ لأنَّ الخوارجَ لا يزولُ شرُّهم إلَّا بقتالٍ، ولكنَّه قد يَخِفُّ بالاستصلاحِ، والبُغاةُ قد يزولُ شرُّهم باستصلاحِهم بالبيانِ والمالِ وإنزالِهم على ما يَرضَوْنَ به؛ ولهذا أمَر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتالِ الخوارجِ ابتداءً؛ لأنَّه لا يَدفَعُ شَرَّهُمْ إلَّا هذا، وأمَرَ بإصلاحِ أمرِ البُغاةِ ابتداءً قبلَ قتالِهم؛ لأنَّه قد يَصْلُحونَ بلا قتالٍ.

والخوارجُ يُؤمَرُ بقتالِهم ولو لم يَبْغُوا على أحدٍ؛ لأجلِ ما يعتقدونَهُ في المُسلِمينَ ويَحمِلُونَهُم على معتقدِهم بكفرِ المُسلِمينَ واستحلالِ دَمِهم؛ ولذا قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: (أَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ؛ فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ) (١)، وإنْ كان اصطلاحُ اللُّغةِ يجعلُ كلَّ خارجيٍّ باغيًا، ولكنَّه لا يكونُ كلُّ باغٍ خارجيًّا؛ ولهذا يَتجوَّزُ بعضُ الفقهاءِ بذِكرِ قتالِ الخوارجِ في أبوابِ قتالِ أَهلِ البَغْي.

وإنِ اشترَكَ البُغاةُ مع الخوارجِ في الفعلِ الظاهرِ، فإنَّ الفارقَ بينَهما: أنَّ الخوارجَ يكفِّرونَ بغيرِ مُكفِّرٍ، ويُقاتِلونَ لأجلِ ذلك، وأمَّا البُغاةُ، فيُقاتِلونَ المُسلِمينَ بتأويلٍ، لا بتكفيرٍ بذنبٍ ولا بمُبَاحٍ، وقد فرَّق النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بينَ البُغاةِ والخوارجِ في قولِه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ) (٢).

وقد أمَرَ بالإصلاحِ بينَ الفئتَيْنِ المُقتتِلتَيْنِ مِن المُسلِمينَ، وإنْ أَبَتْ إحداهُما الإصلاحَ، وأَصَرَّتْ على القتالِ، فيجبُ على المُسلِمينَ دفعُ شرِّها وبغيِها بقتالِها، وإنِ امتنَعَتِ الطائفتانِ جميعًا عن الصلحِ وأَبَتَا إلَّا الاقتتالَ والانتقامَ حتى تُفنيَ إحداهُما الأُخرى، فإنْ كان لجماعةِ المُسلِمينَ شوكةٌ وقوةٌ، فيجبُ عليهم قتالُ الطائفتَيْنِ؛ لاستحقاقِهما وَصْفَ البغي جميعًا،


(١) أخرجه البخاري (٦٩٣٠)، ومسلم (١٠٦٦)؛ من حديث عليٍّ -رضي اللَّه عنه-.
(٢) أخرجه مسلم (١٠٦٤)؛ من حديث أبي سعيد الخدريِّ -رضي اللَّه عنه-.

<<  <  ج: ص:  >  >>