واستفاضَ، والسَّفرُ ممَّا تَعُمُّ به البلوى لكلِّ أَحَدٍ، وعدمُ تقديرِ ذلك بالنصِّ وحَدِّهِ حدًّا بيِّنًا بالنصِّ المستفيضِ مع الحاجةِ إليه: دليلٌ على أنَّه أُحِيلَ إلى عُرْفِ الناسِ وعادتِهم، وهم يختلِفونَ زمنًا ومَنْزلًا وطبيعةً.
والسَّفَرُ به تسقُطُ أركانٌ للإسلامِ؛ كالصلاةِ والصيامِ؛ فيَذهَبُ شَطْرُ الصلاةِ، ويُجمَعُ وقتُ الثِّنتَيْنِ وقتًا واحدًا، ويُترَكُ صيامُ رمضانَ وهو ركنٌ، ومِثلُ هذا حقُّه بيانُ حدِّه بيانًا يَلِيقُ بمنْزلةِ الأركانِ؛ فكما نزَلَ النصُّ بيِّنًا بحياطتِها والإتيانِ بها، يجبُ أنْ يأتيَ النصُّ برفعِها وتركِها بحدٍّ مشابِهٍ، وهذا مقتضى إحكامِ الشريعةِ.
ومع ذلك: فإنَّ الشريعةَ أرادَتِ الإحالةَ إلى العُرْفِ قصدًا؛ تيسيرًا ورحمةً ورفعًا للحرج.
وكثيرٌ من فقهاءِ السَّلفِ ربَّما أفتَوْا في نازلةٍ أنَّها سفرٌ، ولا يَعني أنَّ ما دُونَها ليس كذلك، فيُنقَلُ قولُ الواحدِ منهم في تلك النازلةِ على أنَّه حَدٌّ ضابِطٌ لأدنى السَّفَرِ، ويُنقَلُ على أنَّه قولٌ يضادُّ غيرَهُ، وربَّما أَفْتَى الواحدُ منهم بما يوافِقُ عُرْفَهُ وعُرْفَ أهلِ بلدِه؛ حيثُ أُحِيلَ الأمرُ إليه، فيُجعَلُ قولًا وحدًّا يُضادُّ غيرَهُ.
ولهذا تجدُ مِن فقهاءِ السَّلَفِ مَن يختلِفُ قولُهُ في حدِّ ما يُوصفُ به السَّفَرُ، فيُروى عه في ذلك قولانِ وثلاثةٌ، وتُنقَلُ على أنَّها أقوالٌ مختلِفةٌ، وما هي إلَّا قولٌ واحدٌ؛ إمَّا في نوازلَ مختلفةٍ لا تَعني أدنى مسافةِ السَّفَرِ، فحُمِلَتْ على أنَّها أقوالٌ متعدِّدةٌ، وإمَّا أنَّ العرفَ تبايَنَ؛ لاختلافِ الجهةِ المقصودةِ في السَّفَرِ، فبعضُ السَّلَفِ يفرِّقُ بين ما يسافِرُ إليه الناسُ ويَرجِعونَ مِن يومِهم، وبين ما يسافِرُونَ إليه ويمكُثُونَ فيه أيَّامًا، ولو كان الأخيرُ أقلَّ مسافةً، والأوَّلُ أطوَلَ، فيَجعلونَ الأوَّلَ ليس بسفرٍ، والثاني يجعلونَهُ سفرًا وإنْ كان أقصَرَ مسافةً، وكلُّها تَرجِعُ إلى العُرْفِ.