وأمَّا سُكَّانُ مكَّةَ والذين يَسكُنونَ حَرَمَها الذين يُسمُّونَ أنفُسَهم "الحُمْسَ" جمع أَحْمَسَ، فلم يكونُوا يَفْعَلونَ ذلك، وهم قُرَيْشٌ وثَقِيفٌ، وخُزَاعةُ وكِنَانةُ، وجُشَمُ ومُدلِجٌ، وبنو نَصْرِ بنِ مُعاوِيةَ، وعَدْوانُ وعَضَلٌ، وبنو الحارثِ بنِ عبدِ مَنَافٍ.
وقد تحمَّسَ بنو عامرِ بنِ صَعْصَعةَ، وهم كِلَابٌ وكَعْبٌ وعامرٌ وكَلْبٌ، وليسوا مِن ساكِني الحَرَمِ، فجَعَلوا أنفُسَهم في حُكْمِ سُكَّانِ مكَّةَ؛ لأنَّ أُمَّهم قُرشيَّةٌ، وهي مَجْدُ بنتُ تَيْمِ بنِ غالِبِ بنِ فِهْرٍ.
وقد ثبَتَ في "الصحيحَيْنِ"؛ مِن حديثِ البَرَاءِ بن عازبٍ ﵁؛ قال:"كَانَتِ الأَنْصَارُ إِذَا حَجُّوا فَجَاؤُوا، لَمْ يَدْخُلُوا مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَكِنْ مِن ظُهُورِهَا، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَدَخَلَ مِنْ قِبَلِ بَابِهِ، فَكَأَنَّهُ عُيِّرَ بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ"(١).
وقد نَفَى اللهُ ما يتوهَّمونَهُ من البِرِّ بتركِ أبوابِ البيوتِ، والدخولِ مِن ظهورِها، وبيَّن أنَّ البِرَّ الحقيقيَّ هو تقوى اللهِ على وجهِ الحقيقةِ، ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى﴾، وتقوى اللهِ أنْ يَبتعِدَ العبدُ عن أسبابِ عذابِ اللهِ وسَخَطِه؛ وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّ العِبْرةَ بالموافَقَةِ لهديِ اللهِ ورسولِه، وليس لمجرَّدِ صدقِ الإنسانِ في احتِسَابِه.
وتقديمُهُ للتقوى على دخولِ البيوتِ من الأبوابِ؛ لأنَّ دخولَ البيوتِ مِن الأبوابِ ومِن ظهورِها ليس دِينًا ولا بِرًّا؛ وإنَّما البِرُّ هو ما أمَرَ اللهُ به ووَجَّهَ إليه، فيُتَّقَى اللهُ به، وأنَّ اعتقادَ أنَّ دخولَ البيوتِ مِن ظهورِها دِينٌ وبِرٌّ جعَلَ الدخولَ مِن الأبوابِ من البِرِّ؛ لمخالَفةِ البِدْعةِ في الدِّينِ، وفي هذا دليلٌ على أنَّ إظهارَ العاداتِ التي تُخالِفُ ما يتوهَّمُهُ الناسُ دِينًا مِن البِرِّ، وهو وإن كان في ذاتِهِ عادةً إلَّا أنَّه يُظهِرُ مخالَفَةَ الإحداثِ.