للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

معها وهم قليلٌ، وكانت بقيةُ العربِ تقفُ بِعَرَفةَ وتنصرِفُ قبلَ غروبِ الشمسِ، فَبيَّنَ اللهُ هَدْيَهُ ومناسكَ الحجِّ للنَّاسِ على ما كان عليه الخليلُ إبراهيمُ؛ ولذا قال اللَّهُ: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾، لا مِن مزدَلِفةَ؛ كما بَدَّلَتْ قريشٌ حيثُ كانت تُفِيضُ منها، ولمَّا ذكَرَ اللهُ الإفاضةَ مِن مزدَلِفةَ بعدَ عَرَفةَ، قال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾؛ يعني: العرب وقريشًا وغيرَهم، فكانوا كلُّهم يجتمعونَ في مزدَلِفةَ فيُفِيضُونَ منها؛ لأنَّهم لم يكونوا يختلِفونَ في الإفاضةِ من مُزْدَلِفةَ؛ وإنَّما يختلِفونَ في الإفاضةِ مِن عَرَفةَ.

ولا خلافَ أنَّ المشعرَ الحرامَ هو مزدَلِفةُ؛ صَحَّ هذا عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو، وابنِ عباسٍ، وابنِ عمرَ، وسعيدِ بن جُبَيْرٍ، وعِكْرِمةَ، والحَسَنِ (١).

وفي قولِهِ: ﴿وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾: بيانُ فضلِ الذِّكْرِ عندَ تذكُّرِ النِّعَمِ، فمِن شُكْرِ النعمِ ذِكْرُ اللهِ عندَ تذكُّرِها؛ كما أنَّ تذكُّرَ الضلالِ بعدَ الهدايةِ، والجهلِ بعدَ العلمِ: يَكْسِرُ النَّفْسَ للخالقِ، وأنَّ مَن هَدَاها قادرٌ على إزاغتِها، ومَن عَلَّمَها قادرٌ على أنْ يُنْسِيَها.

والمرادُ بالضلالِ في الآيةِ: الجهلُ وعَدَمُ العِلْمِ؛ كقولِهِ تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٧].

وبعدَما أمَرَ اللهُ بالإفاضةِ مِن مزدَلِفةَ، أمَرَ بالاستغفارِ: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ وفيه استحبابُ الاستغفارِ عندَ الانصرافِ مِن مزدَلِفةَ، والاستغفارُ في هذا الوقتِ أفضلُ الأذكارِ؛ فإنَّه يُستحَبُّ إظهارُ الافتقارِ بالاستغفارِ عندَ تمامِ الأعمالِ؛ حتى لا يُورِثَ تمامُ


(١) ينظر: "تفسير الطبري" (٣/ ٥١٦ - ٥٢١)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٢/ ٣٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>