ولم يأمُرِ اللهُ نبيَّهُ أن يطلُبَ المشرِكِينَ إلى المسالَمَةِ ابتداءً؛ لأنَّ طلَبَها نوعُ ضعفٍ، ويُورِثُ المسلِمِينَ ركونًا ودَعَةً وخِذْلانًا، وهذه الآيةُ على ضَعْفِ كونِها في سلمِ الحربِ، فهي وقعَتِ ابتداءً مِن المشرِكِينَ في الحُدَيْبِيَةِ.
وبقاءُ المسلِمِينَ في حالةِ حربٍ مع عدوِّهم يجعلُهُم يُعِدُّونَ العُدَّةَ ويتقوَّوْنَ ويتهيَّبونَ عدوَّهم ويرقُبُونَ منه سُوءًا؛ وهذا يَزيدُ مِن لُحْمَتِهم في داخِلِهم وتآلُفِهم على دِينِهم؛ فوجودُ العدوِّ الخارجيِّ يحصِّنُ الأُمَّةَ مِن داخِلِها، وإنْ عُطِّلَ الجهادُ، انشغَلَ المسلِمُونَ فيما بينَهم بالخلافِ على الجزئيَّاتِ، واقتَتَلُوا على التفاهاتِ.
ولأنَّ إطالةَ السلمِ يعني شِدَّةَ المخالَطةِ للمشرِكِينَ ودوامَها؛ فتذوبُ الفِطَرُ، ويُعجَبُ المؤمِنُ بالكافرِ، ويجسُرُ المسلِمُونَ على مساكَنَةِ المشرِكِينَ في بُلْدانِهم، وتظهَرُ الرِّدَّةُ ويظهرُ النِّفاقُ، وفي كلِّ زمنٍ يغيبُ فيه الجهادُ يضعُفُ الإيمانُ، وتظهرُ الردةُ، ويكثُرُ الوهنُ والاختلافُ في الفروعِ والجزئيَّاتِ؛ لأنَّ الإنسانَ جُبِلَ على الجدالِ والمنازَعةِ؛ ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤]، فإذا غاب الجَدَلُ في الأصولِ، انشغَلُوا بما دُونَهُ.
والحالةُ الثانيةُ: في حالِ قوةِ المؤمنينَ قوةً تمكِّنُهُمْ مِن تحصينِ أنفسِهِمْ ومدافَعَةِ المشرِكِينَ وصَدِّهم ولو لم يَغلِبُوهم؛ فهذا سلمٌ لا يجوزُ؛ قال تعالى: ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾ [محمد: ٣٥].