المحرَّمِ وإثباتِهِ، والاقتصارُ على ذلك: خطأٌ؛ فهو يعلِّقُ القلبَ والعقلَ ألَّا يُؤمِنَ إلَّا بما تثبُتُ عِلَّتُه، وينفِّرُ مِن الأحكامِ التي يحرِّمُها الشرعُ عندَ غيابِ عِلَّةِ التحريمِ، ولا تُترَكُ الموازنةُ العقليَّةُ، ولكنْ لا يجوزُ تغليبُها على وجوبِ التسليمِ بالحُكْمِ الإلهيِّ.
وربطُ الناسِ بالتسليمِ ليس تعطيلًا للعقلِ، بل تعظيمًا للخالقِ وسَعَةِ عِلْمِه؛ فإنَّ الإنسانَ إذا رجَعَ كلَّ شيءٍ إلى نَفْسِهِ، تَكبَّرَ، وإذا رجَعَهُ إلى غيرِهِ، عَلِمَ ما لم يَعلَمْ، فهذا في البشَرِ، والفارِقُ بين البشرِ في العِلْمِ والحِكْمةِ محدودٌ، والفارقُ في العلمِ والحِكْمةِ بين الإنسانِ وربِّه ليس له حَدٌّ، وتسليمُ الإنسانِ بحُكْمِ رَبِّهِ قوةُ إيمانٍ، وأَثْبَتُ على التمسُّكِ بالحقِّ؛ فإنَّ العقولَ تتمسَّكُ بما ترى نفعَهُ، فإذا زالَ النفعُ، انتكَسَتْ عنه، وأمَّا مَن سلَّم للهِ، فما عندَ اللهِ ثابتٌ لا يزولُ؛ روى ابنُ جريرٍ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عنِ ابنِ عَباسٍ؛ قولَهُ: ﴿وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾؛ يقولُ:"ما يَذهَبُ مِنَ الدِّينِ، والإثمُ فيه: أكبَرُ مِمَّا يُصِيبُونَ في فَرَحِها إذا شَرِبُوهَا"(١).
وهذه الآيةُ تمهيدٌ لما أَتَى بعدَها مِن التحريمِ؛ حيثُ أنزَلَ اللهُ قولَهُ تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٩٠]؛ وذلك لبيانِ التحريمِ ووضوحِه، وقَطْعِ الرَّيْبِ والشكِّ الواقعِ في النفوسِ من حُكْمِ الخمرِ والميسِرِ.
وأكثرُ المفسِّرينَ: على أنَّ آيةَ البابِ لم يثبُتْ بها تحريمُ الخمرِ قطعًا؛ وإنَّما إلماحًا، وروى ابنُ جريرٍ، عن سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ؛ قالَ: "لمَّا نزَلَتْ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾،
(١) "تفسير الطبري" (٣/ ٦٨٠)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٢/ ٣٩٢).