للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فيتأخَّرُ الحكمُ رِفْقًا بالأُمَّةِ؛ لأنَّ تخلُّفَ أوَّلِها عن الامتثالِ يُورِثُها لآخِرِها، فهيَّأَ اللهُ لدينِهِ دوامَ الثباتِ والبقاءِ، ولأصحابِ نبيِّهِ أسبابَ الامتثالِ ومُوجِباتِ حُسْنِ الاقتداءِ، فسببُ الرِّبا فِطْرةُ الشحِّ البشريِّ وشِدَّةُ الطمعِ، وفي هذا يقولُ تعالى: ﴿وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ﴾ [النساء: ١٢٨]، وقال: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر: ١٩، ٢٠]، وقال: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨]، فنزَعَ شُحَّ النفوسِ وطَمَعَها قبلَ تحريمِ الرِّبا؛ بإيجابِ الزكاةِ والحَثِّ على الصدقةِ والإحسانِ، ثُمَّ لمَّا ضَعُفَ شُحُّ النفوسِ وطَمَعُها، تهيَّأَتْ لقبولِ تحريمِ الرِّبا؛ فحَرَّمَهُ اللهُ.

وللرِّبا أثرٌ في الإيمانِ، وللإيمانِ القويِّ أثرٌ في تركِ المالِ الحَرامِ، وشدةُ الطمعِ وقُوَّةُ الإيمانِ لا يَجْتَمِعانِ؛ ولذا قال في الآيةِ: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ لأنَّ شِدَّةَ الطمعِ تُوجِبُ أكلَ الحرامِ وتركَ الزكاةِ والنَّفقةِ.

وهذه الآيةُ قِيلَ: إنَّها نزَلَتْ في العَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ ورجلٍ مِن بني المُغِيرةِ، كانا شريكَيْنِ فِي الجاهليَّةِ يُسْلِفانِ في الرِّبا إلى أناسٍ مِن ثَقِيفٍ، وهم بنو عمرِو بنِ عُمَيْرٍ، فجاء الإسلامُ ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الرِّبا، فنزَلَتْ: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ (١).

فالآيةُ دليلٌ على الترخيصِ بأخذِ ما تَمَّ قبضُهُ مِن المالِ المقبوضِ في الرِّبا قبلَ التوبةِ، وتحريمِ ما لم يُقبَضْ مما كان معلَّقًا؛ حَلَّ أو لم يَحِلَّ؛ إذْ لا يجوزُ قبضُ الحرامِ بعدَ العِلْمِ به ولو كان برِضَا الطرفَيْنِ، فالرِّضَا لا يُحِلُّ الرِّبا، كما لا يُحِلُّ الزِّنى والرِّشْوةَ.

ومَنْ تعاقَدَ بالرِّبا مع صاحبِ رِبًا، فلا يجوزُ له قضاءُ الرِّبا وسدادُهُ


(١) "تفسير الطبري" (٥/ ٤٩)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٢/ ٥٤٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>