أحدهما: الوجوبُ؛ فقد أخَذَ بظاهرِ الأمرِ؛ فأوجَبَها بعضُ السلفِ، ورجَّحهُ الطَّبَريُّ، وهذا مرويٌّ عنِ ابنِ عباسٍ، فقد روى ابنُ المنذِرِ، عن عليِّ بنِ أبي طَلْحَةَ، عنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ في قولهِ ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾: "فأمَرَ بالشهادةِ بَينَهُم عند المكاتَبةِ؛ لكيلا يدخُلَ في ذلك جحودٌ ولا نِسيانٌ؛ فمَن لم يُشهِدْ على ذلك مِنكُم، فقد عَصَى"(١).
القول الثاني: ذهَبَ إليه أكثرُ العلماءِ، وهو أنَّ الأمرَ على الاستحبابِ، وبه قالَ الشَّعْبيُّ والحسنُ ومالكٌ وغيرُهُ؛ وذلك أنَّ المالَ حقٌّ لصاحبِهِ، وله حقُّ إسقاطِهِ كلِّه وإبراءِ المَدِينِ منه؛ وهذا هو الأظهَرُ؛ فالأمرُ للدَّلَالةِ والإرشادِ لحفظِ الحقِّ، ومَن أسقَطَ البيِّنةَ على حقِّه، فإنَّما ترَكَ توثيقَ حقِّهِ وأسقَطَهُ بنفسِهِ، والكتابةُ لا تجبُ في عقودِ النكاحِ، وهيَ أعظَمُ مِن المالِ؛ وإنَّما يُكتفى بالشهودِ؛ لعِظَمِ الأبضاعِ في الشرعِ والطَّبْعِ.
وإيجابُ الكتابةِ في الدَّيْنِ مشقَّةٌ مع حاجةِ الناسِ إلى المالِ وتبادُلِهِمْ لهُ لي الأسواقِ والبيوتِ والأسفارِ، فيتعاطَوْنَ الدراهمَ والدنانيرَ فُرَادَى في وقتِ الأُمِّيَّةِ، وربَّما تدايَنُوا بالقليلِ كالدِّرْهَمِ والمُدِّ والمُدَّينِ، ومثلُ هذا في إيجابِ كتابتِهِ كُلْفةٌ وعُسْرٌ، ولكنْ لا خلافَ في استحبابِ الكتابةِ، وكلَّما عَظُمَ المالُ وكَثُرَ الشركاءُ وتأخَّرَ الأجلُ، تأكَّدتِ الكتابةُ؛ لِغَلَبَةِ الظنِّ بورودِ الزاعِ وموتِ المتدايِنِينَ.
وقد تجبُ الكتابةُ عندَ غَلَبةِ الظنِّ بالخصومةِ والنزاعِ وضياعِ الحقوقِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يقولُ: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾؛ وفي هذا بيانُ الحِكْمةِ مِن الكتابةِ والإشهادِ؛ حفظًا للحقوقِ، ودفعًا للشكِّ والريبِ والنِّسْيانِ.