الثانيةُ: إذا كان الهجرُ لا يُؤثِّرُ في المهجورِ ولا يَرْدَعُه، بل قد يَزِيدُهُ بُعْدًا وشرًّا وفتنةً، والهاجرُ لا يتضرَّرُ في دِينِهِ مِن قُربِهِ ضررًا يترجَّحُ على ضررِه لو هجَرَهُ؛ فإنَّ الهجرَ حِينئذٍ لا يجوزُ، وكلٌّ بحَسَبهِ، وليستِ العِبْرةُ بمجرَّدِ المعصيةِ، فيُهجَرُ العاصي لأَجْلِها، بل لا بدَّ من أثرِ الهجرِ عليه، ومنزلةِ الهاجرِ من المهجورِ، وتأثُّرهِ وتحسُّرهِ على فقْدِه؛ كالوالدِ مع ولدِه، والأخِ الكبيرِ مع أخيهِ، والشيخِ مع تلميذِه، ومِن أهلِ الكفرِ والمعاصي مَن يُرِيدُ أن يُهْجَرَ؛ لِيَسْلَمَ مِن داعي الخيرِ؛ كما كان كفارُ قريشٍ يرغَبونَ في هَجْرِ النبي ﷺ وإمساكِهِ عنهم، فلا يُريدونَ سماعَه، ووَدُّوا لو ترَكَهم، ومع هذا علِمَ النبيُّ أنَّ هجْرَهم يَزيدُهم بُعْدًا؛ لزُهْدِهم في الخيرِ وداعِيه، فوصَلَهُمْ في النصحِ، وصَبرَ على أذاهُم، ولم يهجُرِ النبيُّ في حياتِه إلا نفرًا يسيرًا، وفي أحوالٍ يسيرةٍ؛ وذلك لأمرينِ:
الأولُ: لأنَّ من الناسِ كفارًا معاندين يُريدونَ هَجْرَهُ، ويتمنَّوْنَ ألَّا يسمَعُوا دَعْوَتَهُ، فيُؤثِّرَ فيهم وفي ذَرَارِيهم، فكان الهجرُ في حقِّهم محرَّمًا، والوصلُ لهم مع الصبرِ على دعوتِهم متعيِّنًا.
الثاني: أقوامٌ يشتدُّ عليهم الهجرُ، وهو أثقل عليهم مِن حَمْلِ الحَجَرِ، ويقَعُونَ في الخطأ عمدًا وسهوًا، وهجرُهُمْ عقابٌ شديدٌ؛ لمقامِ النبوَّةِ وحبِّهم له وحِرْصِهم عليه، فيْصلِحُهم ويتألَّفُهم ويرحَمُهم ولا يهجُرُهم؛ لأنَّ مَقامَهُ ليس كمقامِ غيرِه، فربَّما اشتدَّ على الواحدِ منهم الهجرُ فضاقَ واشتدَّ له الحَرَجُ، فربَّما انقطَعَ به رجاءُ الوصلِ، وسوَّلَ له