للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الإيمانِ باللهِ والتسليمِ والخُضُوعِ والتعظيمِ له أعظَمَ ممَّا يَجِدُه في الآياتِ الكَوْنِيَّةِ المُشاهَدَةِ كالسَّمَواتِ والأَرْضِ والنُّجُومِ والكواكِبِ والسَّحَابِ، وقد سَمَّى الله أحكامَهُ مواعِظَ؛ فقد قال تعالى بعدَمَا ذَكَرَ آياتِ الطَّلَاقِ: ﴿يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٢٣١]، ﴿ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ﴾ [البقرة: ٢٣٢]، وقال بعدَ آباتِ الظِّهَارِ: ﴿ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة: ٣]، وقال بعدَ آياتِ القَذْفِ: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا﴾ [النور: ١٧]، ولَمَّا ذَكَرَ اللهُ أوامِرَهُ لبَنِي إسرائيلَ قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: ٦٦]؛ وذلكَ أنَّ الأحكامَ فيها مِنَ المَوْعِظَةِ والعِبْرَةِ وعظيمِ المنفَعَةِ لمَنْ تأَمَّلَها، وإنَّ الفَقِيهَ بأحكامِ القُرآنِ يَجِدُ في قَلْبِه مِنَ الإيمانِ واليَقِينِ بمِقدارِ فِقْهِهِ وبَصَرِه فيها؛ لِمَا يَرَى مِن إِحْكامِ الأَحْكامِ ما لا يُمكِنُ ورودُهُ الا مِن خالِقٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ، وقد قال التابعيُّ الحارِثُ بنُ يَعْقُوبَ: "إنَّ الفَقِيهَ كُلَّ الفَقِيهِ مَن فَقُهَ في القُرآن، وعَرَفَ مَكِيدَةَ الشَّيْطَان" (١).

وأَحْكامُ الإسلامِ موجودةٌ في القُرآنِ بالإِجْمالِ، ولكنْ مِنها ما يَظْهَرُ بأَدْنَى نَظَرٍ؛ لِجَلَاءِ النصِّ فيهِ، ومِنها ما يحتاجُ إلى جلاءِ نَظَرٍ؛ لِخَفَاءِ النَّصِّ فيه، وتلكَ مُوازَنةٌ عَكسِيَّةٌ: إذا بَرَزَ الحُكمُ قَلَّتِ الحاجةُ للبَصِيرةِ، وإذا خَفِيَ الحُكمُ عَظُمَتِ الحاجةُ إليها، وإلَّا فالحُكمُ موجودٌ بالنصِّ أو الاستِنباطِ، وهذا مِنَ المُرادِ بقولِه تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: ٨٩].


(١) رواه ابن بَطَّةَ في "إبطال الحِيَل" (ص ١٧)، وابن عبدِ البَرِّ في "جامع بيانِ العلم وفَضْلِه" (٢/ ٨١٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>