للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الفضلِ، فالمُجاهِدونَ أفضَلُ مِن القاعِدينَ ولو كانوا مَعذورِينَ، فحمَلَ أوَّلَ الآيةِ على رفعِ الحَرَجِ عنهم، وفي آخرِها ذكَرَ فَضلَهُم عليهِم، وهو قوله ﴿فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾؛ وذلك لقرينةِ ذِكرِ اللهِ للحُسنى للجميعِ؛ لأنَّ القاعدَ غيرَ المعذورِ في جهادِ فرضِ التعيينِ: مَقامهُ مقامُ وعيدٍ، لا مقامُ وَعْدٍ، ومقامُ تهديدٍ، لا مقام فضلٍ؛ وبمعنى هذا قال ابنُ جُرَيجٍ وغيرُه (١).

والأظهرُ: أن الأصلَ أنَّ القاعدَ المعذورَ يأخُذ أجرَ المجاهِدِ بمقدارِ ما يقَعُ في قلبه، كما يختلفُ المجاهِدونَ بحسَب ما يقعُ في قلوبِهم، فيتَبايَنُ فضلُ القاعِدينَ المعذورِينَ فيما بينَهم، كما يتَبايَنُ فضلُ المجاهِدِينَ النافِرِينَ فيما بينهم؛ فالقاعدُ المعذورُ الذي يَحزَنُ لعُذرِهِ غير القاعدِ المعذورِ الفَرِحِ بعُذرِه، وربَّما تساوى القاعِدُ بالمجاهِد، بل وربَّما يفضُلُ القاعد المعذورُ المجاهدَ النافرَ؛ لأن القاعدَ، وجَدَ حسرةً شديدة على عذرِه، والمجاهدَ تمنَّى القعودَ وكَرِهَ الخروجَ واستثقَلَهُ، وإنما سببُ خروجِه خشيةُ الناسِ وحديثهم.

والقاعدُ المعذوز يأخُذ أجرَ أصلِ الجهادِ والخروجِ الذي يَشترِكُ فيه الجميعُ؛ مِنَ السَّيرِ وقِتَالِ العدو، ولا يأخُذُ ما يختص له المجاهِدُ عن المجاهدِ في الغزوِ؛ كأجرِ الشهادة، وعاقبتِها، وفضلِ الموتِ بها، وأجرِ قتلِ الكافرِ؛ كما في الحديثِ: (لَا يَجتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أبدًا) (٢)، وكأجرِ الإثخانِ والأسرِ؛ فهذا لا يَشترِكُ فيه المجاهدونَ أنفسُهم؛ فيتَمايَزونَ بينَهم بحسَبِ إقدامِهم وتقديرِ الهَمِّ، فما يتبايَنُ فيه المجاهِدون أنفُسهم منَ الفضلِ لا يُساويهم فيه القاعِدونَ؛ ففي الحديثِ: (مَا سِرْتم


(١) ينظر: "تفسير الطبري" (٧/ ٣٧٥)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٣/ ١٠٤٣).
(٢) أخرجه مسلم (١٨٩١) (٣/ ١٥٠٥)؛ من حديث أبي هريرة.

<<  <  ج: ص:  >  >>