للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعِلْمِه - يقولُ: "لولا قُضاةُ السُّوء، لقُلْتُ: إنَّ للحاكمِ أن يَحكُمَ لعِلمِه! " (١).

وهذا مِن فِقْهِه؛ فإنَّ أصلَ منعِ القاضي أنْ يَحكُمَ بعِلْمِهِ هو تُهَمَتُه، ولو رَضِيَ الناسُ حُكْمَه، ولم يَختَلِفوا عليه ولم يتَنازَعُوا مِن بَعْدِه، مع عِلْمِه وديانتِه، وبُعْدِه عن التُّهَمةِ -: لم يَرِدْ نهيٌ قاطعٌ في الشريعة، ولا في قولِ السلفِ عن ذلك.

وفي الأزمِنَةِ المتأخِّرةِ مع ضعفِ أمانةِ كثيرٍ مِن الحُكَّامِ والقُضَاة، فإنَّ معَ حُكْمِ الحاكمِ بعِلْمِهِ هو المتعيِّنُ الذي لا ينبغي حكايةُ الخلافِ عليه، ولو كان الخلافُ متقدِّمًا، فإنَّ خلافَ السَّلَفِ والفقهاءِ في عَيْنِ المسألةِ.

وأمَّا مع تحقُّقِ التُّهَمةِ وضعفِ الأمانةِ والنِّزاعِ والخُصُومة، فلا أُراهم يَختلِفونَ في مَنْعِ الحاكمِ أن يحكُمَ بعِلْمِه؛ فإنَّ هذا ولو لم يَجْرِ على فروعِهم، فإنَّه يجري على أصولِهم، وقد أشار غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ إلى هذا المعنى؛ كابنِ القيِّم، فقد قال: "وحتَّى لو كان الحقُّ هو حُكْمَ الحاكمِ بعِلْمِه، لوَجَبَ مَنعُ قُضاةِ الزَّمانِ مِن ذلك" (٢).

وقد ترجَمَ البخاريُّ في "صحيحِه" على مِثلِ هذا القيدِ وهذا المعنى؛ بقولِه: "بَابُ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاس، إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِهِنْدٍ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ)؛ وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أمْرًا مَشْهُورًا" (٣)، وقد حكَمَ النبيُّ لهنْدٍ أن تأخُذَ مِن مالِ زوجِها بغيرِ إذنِهِ بحقٍّ؛ كما في حديثِ عائشةَ: أنَّ هندَ بنتَ عُتبةَ أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَتْ: يا رسولَ الله، إنَّ أبا سُفْيانَ رجلٌ شَحيحٌ، وليسَ لي مِنه إلَّا ما يَدخُلُ بيتي! فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ).


(١) "فتح الباري" (١٣/ ١٦٠).
(٢) "الطرق الحكمية" (ط - عالم الفوائد) (٢/ ٥٣٠).
(٣) "صحيح البخاري" (٩/ ٦٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>