وذلك لأنَّ مِن الحِرابةِ ما يختلِفُ، فيُلحَقُ وهو أَدْنى بالأَعْلى، وقد يُخفَّفُ الأعلى لمصلحةٍ عامَّةٍ؛ كترك الصلبِ وإنفاذِ القتلِ في القاتلِ مُحاربَةً، ومنها ما لا يُترَكُ على قولِهم بحالٍ كمَن قتَلَ مُحارَبةً فلا يَختلِفونَ في عدمِ سقوطِ القَوَدِ، وما للحاكم هو إسقاطُ صَلْبِه، وإنَّما تنوَّعَ كلامُهم ذلك للاعتباراتِ السابقة، وهي اختلافُ الأحوالِ والأشخاص، والزمان والمكانِ:
فأمَّا اختلافُ الأحوالِ: فإنَّ المحارَبةَ على مراتِبَ؛ منها ما يكونُ معه قتلٌ وانتهاكُ عِرْض، ومنها ما يكونُ فيه خطفٌ وأخذُ مالٍ، ومنها ما يكونُ فيه التخويفُ وأخذُ المال، ومنها ما يكونُ تخويفًا بلا أخذِ مالٍ ولا غيرِه، والتخويفُ على درجاتٍ، وأشَدُّها يكونُ فيه الأخذُ بأشَدِّ الأحكام، وهو القتلُ والصلب، وكلَّما خَفَّتِ الحالُ خَفَّ الحُكْمُ.
وقد يكونُ أثرُ بعض الأحوالِ أشدَّ من غيرِه؛ كشيوعِ خبرِ الحِرَابةِ وخوفِ الناسِ منها؛ لتداوُلِ الناسِ لها في مَجالسِهم وإعلامِهم؛ فالعقوبةُ فيها أشَدُّ من حِرابةٍ مستورةٍ غيرِ متعدِّيةٍ؛ لأنَّ المقصودَ من إلحاقِ الحقِّ في حدِّ الحِرابة بالحاكمِ أنَّ فيها مصلحةَ الناسِ عامَّةً، لا مصلحة المجنيِّ عليهم خاصَّةً.
وأمَّا اختلافُ الأشخاصِ: فالمرادُ بذلك اختلافُ شخصِ المحارِبِ وشخصِ المحارِبِ، فإنْ كان المحارِبُ له سابقةُ حربٍ وتخويفٍ وشرٍّ، فهذا يَستحقُّ التشديدَ عليه، بمقدارِ ما يَغلِبُ على الظنِّ ردعُهُ وردعُ مَن يُماثِلُه، فقد يُشدَّدُ على محارِبٍ أخافَ أشَدَّ من محارِبٍ أخافَ وسلَبَ المالَ؛ لأنَّ الأولَ اعتادَ تخويفَ الناسِ وترهيبَهم، والثاني لم يَسبِقْ له سابقةُ شرٍّ.
ومِن الأشخاصٍ المُحارِبيِنَ مَن يَظهَرُ عنادُهُ وإصرارُهُ على شرِّهِ وعدمُ توبتِهِ وندمِه؛ فهذا يُشدَّدُ عليه ولو كانتْ حِرابتُهُ مُخفَّفةً؛ أو وَقَعَ ذلك منه أوَّلَ مرَّةٍ، ومنهم مَن يَظهَرُ ندمُهُ وتوبتُهُ أو يَظهَرُ مِن حالِه الجبنُ عن تكرارِ مِثْلِ ما فعَلَ؛ فهذا يُؤخَذُ بالأخفِّ.