وكذلك: فإنَّ المحارَبَ قد يكونُ حقُّه التعظيمَ والتوقيرَ؛ كقطعِ الطريقِ على السُّلْطانِ العادل، والعالِم والقاضي الذي يحتاجُ الناسُ إلى نفعِه؛ ففي مفسدةِ التعدِّي على هؤلاء أثرٌ في كثيرٍ من الناسِ في دينِهم ودُنياهم، فاستحَقَّ المحارِبُ التشديدَ؛ للأثرِ المتعدِّي من فِعلِه على مَن حارَبَ.
وأمَّا اختلافُ الزمانِ: فإنَّ الأزمنةَ تتبايَنُ؛ فمنها ما يشتِهرُ فيها الأمنُ ويستقِرُّ، ووقوعُ الحادثةِ الواحدةِ في المحارَبةِ لا تؤثِّرُ في استقرارِ أمنِ البلدِ وأمنِ أهلِه، ولا تُهِيبُهم عن سفرٍ وضربٍ في الأرضِ؛ لعَدِّهم إياها حادثةَ عَيْنٍ؛ فهذه حقُّها التخفيفُ ما لم يكنْ فيها قتلٌ أو انتهاكُ عِرْضٍ.
ومِن الأزمنةِ: ما انتشَرَ فيها قطعُ السبيلِ والفسادُ في الأرضِ؛ حتى تعطَّلتْ مصالحُ الناس، وخافوا السفرَ والضربَ في الأرضِ؛ فهذا يُشدَّدُ فيه؛ حتى يُؤخَذَ بالأشدِّ في أَدْنى وجوهِ المحارَبةِ؛ وهو التخويفُ.
وأمَّا اختلافُ المكانِ والبُلْدانِ: فمنها ما حقُّها التعظيمُ، وحقُّ أهلِها في الأمن أكثَرُ من غيرِها؛ كمكَّةَ والمدينةِ وكذا بيتُ المَقْدِسِ؛ لأنَّ الله فضَّلَها على غيرِها وفضَّلَ العبادةَ فيها، وحَثَّ على قصدِ العبادةِ فيها، والمحارَبةُ في طريقِها تحقيقُ لمفسدتَيْنِ: دينيَّةٍ ودنيويَّةٍ؛ فيَلزَمُ مِن ذلك دفعُهما، ودفعُهما يكونُ بتغليبِ الأشدِّ من العقوبةِ.
ويدخُلُ في هذا قطعُ طريقِ الحاجِّ والمعتمرِ ولو كان في غيرِ هذه البُلْدانِ في أقصى الأرضِ؛ لأنَّه صدٌّ عن مصلحةٍ عُظْمَى، ويدخُلُ في ذلك أيضًا البُلْدانُ التي تعظُمُ فيها مصالحُ الناس، فيجلبون منها طعامَهم وماءَهم، وفيها سوقُهم، ولا تقومُ حياتُهم إلَّا بها؛ فقطعُ السبيلِ عنها أشدُّ من غيرِها، وقد يكونُ حدُّ الحِرَابةِ في التخويفِ فقطْ، أشَدَّ مِن حدِّ الحِرابةِ في التخويفِ وأخذِ المالِ في غيرِها.