للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وجعَل بعضُ السلفِ هذه الآية في المُشرِكينَ؛ صحَّ عن مجاهدٍ وقتادةَ وعطاءٍ الخراسانيِّ (١).

ولا خلافَ عند السلفِ والخَلَفِ: أنَّ المُشرِكَ المُحارِبَ تسقُطُ مُحاربتُهُ وعقوبتُهُ بإسلامِه، وكلُّ ما أصاب مِن دمٍ أو مالٍ، فهو هَدرٌ؛ وذلك أنَّ في طلبِ ذلك صَدًّا لهم عن الدخولِ في الإسلام؛ فلو عَلِمَ أحدٌ من المُشرِكينَ المُحارِبينَ أنَّ المُسلِمينَ يَطلُبونَهُ لِما سبَقَ منه مِن تخويفٍ وقطعِ سبيلٍ ودمٍ ومالٍ، لَمَا أقبَلَ على الإسلامِ أحدٌ منهم إلا ما شاء اللهُ، وما مِن أحدٍ من المُشرِكينَ المحارِبينَ بمكَّةَ إلَّا وله سابِقةُ محارَبةٍ للنبيِّ وأصحابِه، ومع هذا لم يُطالِبِ النبيُّ مَن أسلَمَ منهم بشيءٍ ممَّا سبَقَ.

الثانيةُ: إن كان المحارِبُ مُسلِمًا، فلا تخلو توبتُه مِن صورتَيْنِ:

الصورةُ الأُولى: إنْ كان الحاكمُ قادرًا عليه لو طلَبَهُ، وإنْ طال طلبُهُ، والمُدَّة التي يطلُبُه فيها لا يكونُ فيها فسادٌ يُوازِي مصلحةَ طلبَه، فلا تُقبَلُ منه توبتُهُ ولو امتنَعَ عن تسليمِ نفسِهِ إِلَّا بقَبُولِها؛ وعلى هذا يُحمَلُ نهيُ غيرِ واحدٍ من السلفِ عن قَبُولِ توبة المحارِبِ؛ لأنَّ مصلحةَ إقامةِ الحدِّ أعظَمُ، وبتركِها وقَبُولِ توبةِ كلِّ محارِبٍ يَعرِضُ توبتَهُ: يتجرَّأُ الناسُ على الحُرُماتِ وقطعِ السبيلِ؛ وقد صحَّ عن هشامِ بنِ عُرْوةَ: أنَّهم سألُوا عُرْوةَ عمَّن تلصَّصَ في الإسلامِ فأصابَ حدودًا ثم جاء تائبًا، فقال: "لا تُقبَلُ توبتُهُ، لو قُبِلَ ذلك منهم، اجترَؤُوا عليه، وكان فسادًا كبيرًا؛ ولكن لو فَرَّ إلى العدوّ، ثم جاء تائبًا، لم أَرَ عليه عقوبةً" (٢).

وبهذا قال غيرُ واحدٍ؛ كالأوزاعيِّ وغيرِه.


(١) "تفسير الطبري" (٨/ ٣٩٢ - ٣٩٣).
(٢) "تفسير الطبري" (٨/ ٣٩٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>