للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومِن السلفِ والفُقَهاءِ: مَن يقدرُهُ للواحدِ بمقدارِ كنِصفِ الصاع، ومنهم بالمُدّ، وهذا ليس حدا توقيفيًّا كحدِّ مقدارِ زكاةِ الفِطرِ؛ وإنما يَحُدونهُ حدا للناسِ تبرَأُ به الذِّمةُ، ويَسُد حاجةَ الفقير، وَيمنع شُح الغنيِّ؛ ولهذا اختلَفَتِ الأقاويلُ عنهم، وربما عن الواحدِ منهم؛ حتى نسبُ إلى الصحابي الواحدِ والتابعي قولان، واختلاف هذه المقاديرِ في فُتيا السلفِ دليل على أنهم يُريدون الإشباعَ؛ وإنَّما اختلَفَ القولُ عنهم لاعتباراتٍ؛ منها: اختلافُ نوعِ الطعامِ؛ فيَزِيدُ في الرديءِ حتى لا يُهضَمَ الفقيرُ، وينقُصُ في النفيس حتى لا يُغبَنَ الحالِفُ، وربَّما كان لاختلافِ قدرةِ الحالفِ وطاقتِهِ وحالِ الناسِ وزمانِهم مِن جهةِ اليَسَارِ والعَجزِ، ونوعِ الفقيرِ وما يَسد جُوعَه، ويظهَرُ ذلك لجملةٍ مِن القرائنِ؛ منها:

أولًا: أن السَّلفَ لا يَختلفُ قولُهُم في أن مَن أجلَس عَشرةَ فقراءَ فأطعَمَهم حتى شَبِعُوا وقامُوا: أن ذلك يُجزئهُ عن كفارته؛ وهذا ظاهر في جعلِ العِلَّةِ الإشباعَ، لا الكيلَ المعلومَ؛ كما في زكاةِ الفِطرِ.

وقد نص على أن تغديةَ الفقراءِ وتعشيتَهُم تُجزئُ: جماعة؛ كعليِّ وابنِ عباسِ والحسنِ وابنِ سيرين، ولا مُخالِفَ لهم.

وقد صح عن ابنِ عباس أنه قال: "إن كنتَ تُشبعُ أهلَكَ فأشبعِ المساكينَ؛ وإلا فعلى ما تُطعِمُ أهلَكَ بقَدَرِه" (١).

ثانيًا: تباين الأقوالِ عن الفقيهِ الواحدِ منهم قرينة على أن العلَّةَ غيرُ الكَيلِ والوزنِ؛ وإنما الإشباع وسَد الحاجة، والناسُ يَتباينونَ في مقدارِ ما يًشبِعُهم، والأطعمة تَختلِفُ في سد الجُوعِ وكفايةِ الآكِلِ.

ولذا يُفتى الحسنُ وابنُ سِيرينَ بالإطعامِ على المائدةِ حتى الإشباعِ تارةَ، وتارة يقولونَ بالإجزاءِ بإخراجِ المُدِّ مع الإدامِ، ومرةً


(١) "تفسير الطبري" (٨/ ٦٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>