للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والناسُ يَختلِفونَ في الاقتداءِ بهم، وأَثَرِهم على الناسِ؛ فمنهم: مَن يُؤثِّرُ في أهلِ بيتِه، ومنهم: مَن أثرُهُ في حيِّه أو بلدِه، ومنهم: مَن هو قُدْوةٌ لدى أكثرِ المُسلِمينَ كالأئمَّةِ؛ فيُستحَبُّ أنْ يُعلِنوا بعضَ العباداتِ التي الأصلُ فيها السِّرُّ، ويَجعَلُوا لهم مِن عادتِهم لربِّهم في الخَفَاءِ ما تزكو به علانيَتُهم، ومَن لا يُقتدَى به، فلا مصلحةَ مِن علانيةِ عبادتِهِ إلَّا ما يذكِّرُ له الناسَ؛ فبهذا القَدْرِ يُشْرَعُ.

ومقصدُ التعليمِ وعِظَمُ أثَرِهِ أعظَمُ مِن مقصدِ الإسرارِ؛ لأنَّ تعليمَ الحقِّ والخيرِ هو الغايةُ مِن إرسالِ الرُّسُلِ؛ ولهذا كان بعضُ السلفِ يتكلَّفُ الجهرَ بما دَلَّ الدليلُ على الإسرارِ به؛ لأجلِ التعليمِ؛ كما جهَرَ عمرُ بدعاءِ الاستفتاحِ للصلاةِ لأجلِ تعليمِ الناسِ (١)، وكان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ يَجْهَرانِ بالاستعاذة، وكان ذلك منهم في القليلِ لا في الكثيرِ؛ بما يؤدِّي مقصدَ التعليم، ولا يضيِّعُ شريعةَ الإسرارِ.

الرابعةُ: ما سمَّاهُ الشارعُ شَعِيرةً؛ كالهَدْيِ والقلائدِ والتَّلْبِيْة، ومقتضى كونِهِ شَعْيرةً أنَّ إشهارَهُ سُنَّةٌ، والتعبُّدَ بإسرارِهِ بِدْعةٌ، ويَلحَقُ في ذلك ما شابَهَه في عملِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو أصحابِه؛ كالجهرِ بالتكبيرِ في أيَّامِ العشرِ وأيَّامِ التشريقِ؛ فقد كان عمرُ يُكبِّرُ بمِنًى فتَرتَجُّ مِنًى تكبيرًا (٢)، وكان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ يُكبِّرانِ في السوقِ في عشرِ ذي الحِجَّةِ (٣).

والأصلُ في نوافلِ الطاعاتِ والقُرُباتِ: السِّرُّ، وهو أفضَلُ مِن العلانيَةِ؛ كما تواتَرَتِ الأدلَّةُ به، سواءٌ كان قراءةَ قرآنٍ أو صدقةً أو ذِكرًا لله، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا


(١) أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (٨٨٥١).
(٢) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (٣/ ٣١٢).
(٣) أخرجه البخاري معلقًا في حديث (٩٦٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>