الحالةُ الأُولى: إنْ كان في المُسلِمينَ قوةٌ وثَباتُ لصدِّ الكافرينَ، فلا يجوزُ لهم أنْ يَدفَعُوا للكافرينَ مالًا على هُدْنَتِهم؛ لأنَّ في ذلك ضَعْفًا وإهانةً لهم؛ والمنعُ هو الأصلُ.
وقد قال الشافعيُّ في "الأمِّ": "لا يجوزُ أنْ يُهادِنَهُمْ على أنْ يُعطيَهم المُسلِمونَ شيئًا بحالٍ؛ لأنَّ القتلَ للمُسلِمينَ شهادةٌ، وأنَّ الإسلامَ أَعَزُّ مِن أنْ يُعطَى مُشرِكٌ على أنْ يَكُفَّ عن أهلِه؛ لأنَّ أهلَهُ - قاتِلينَ ومَقتولِينَ - ظاهرونَ على الحقِّ"(١).
الحالةُ الثانيةُ: إنْ كان في المُسلِمينَ ضَعْفٌ وخافُوا الاصْطِلَامَ وهلاكَ أهلِ الإسلام، وقد أحاطَ بهم الكافِرونَ وتكالَبُوا عليهم مِن جهاتٍ عِدَّةٍ، ولا طاقةَ لهم بالجميع، فيُرِيدونَ أنْ يُخفِّفُوا على أنفُسِهم بعضَ الكافِرِينَ؛ ليتفرَّغوا لبعضٍ دونَ بعضٍ؛ حتى يُمْكِنَهُمُ اللهُ مِن الجميعٍ؛ فالصحيحُ أنه جائزٌ؛ وبهذا قال الأوزاعيُّ ومالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ؛ فقد روى الطبرانيُّ وغيرُهُ؛ مِن حديثِ محمدِ بنِ عمرٍو، عن أبي سَلَمةَ، عن أبي هريرةَ؛ قال: جَاءَ الْحَارِثُ الْغَطَفَانِيُّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، شَاطِرْنَا تَمْرَ المَدِينَة، قَالَ:(حَتَّى أَسْتَأْمِرَ السُّعُودَ)، فَبَعَثَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيع، وَسَعَدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَسَعْدِ بْنِ مَسْعْودٍ، ﵏، فَقَالَ:(إِنَّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّ الْحَارِثَ يَسْأَلُكُمْ أَنْ تُشَاطِرُوهُ تَمْرَ المَدِينَة، فَإِنْ أرَدتُّمْ أَنْ تَدْفَعُوا إِلَيْهِ عَامَكُمْ هَذَا، حَتَّى تَنْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ بَعْدُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أوَحْيٌ مِنَ السَّمَاءِ؛ فَالتَّسْلِيمُ لِأَمْرِ الله، أَو عَنْ رَأْيِكَ، أَو هَوَاكَ؛ فَرَأْيُنَا تَبَعٌ لِهَوَاكَ ورَأْيِكَ، فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ الْإِبْقَاءَ عَلَيْنَا، فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، مَا يَنَالُونَ مِنَّا تَمْرَةً إِلَّا