أوَّلًا: أنَّ النِّفاقَ بلاءٌ وعدوٌّ في داخلِ المُسلِمينَ، وقوَّةُ العدوِّ الداخليِّ بقوةِ العدوِّ الخارجيّ، فإذا قَوِيَ الكفرُ، قويَ النِّفاقُ، فأرادَ النبيُّ ﷺ كَسْرَ شوكةِ المنافِقِينَ بكَسْرِ شَوْكةِ مَن يَستَقْوُونَ به، وهذا إضعافٌ لهم بطريقِ اللزوم، وعادةُ المنافقينَ في كلِّ أمَّةِ: أنَّهم يُحِبُّودَ قوَّةَ كلِّ عدوِّ للمُسلِمينَ، ولا يَنظُرونَ إلى دِيِنِه؛ فحُبُّهم ليس لِذاتِه؛ وإنَّما لأنَّه عدوٌّ لعدوِّهم، فيَستنصِرونَ به وَيعتمِدونَ عيه، وسمعُهم وبصرُهم إليه.
ثانيًا: أنَّ النِّفاقَ باطنٌ مستتِرٌ، وأهلَهُ يتخفَّوْنَ به، وقد قَدِمَ النَّبيِّ ﷺ المدينةَ وهو غريبٌ على أكثرِ أهلِها، ولمَّا يتمكَّنوا من معرِفةِ دِينِه، ولَمَّا يَرسَخِ الإيمانُ في قلوبِ كثيرٍ منهم، والنِّفاقً لا يُعرَفُ حتَّى يُعرَفَ الإيمان، فلو نزَلَتْ عليه آياتُ النِّفاقِ أوَّلَ مَقدَمِه، لكان في ذلك مَدخَلٌ لِمَرْضى القلوبِ لتُهَمَتِه بتفريقِ صفِّهم وقد كانوا يَرجُونَ جمعًا ونصرًا وعِزَّةً.
ثالثًا: أنَّ النِّفاقَ له قرائنُ خفيَّةَ وقرائنُ قوَيَّةٌ، ولم يَكنِ النفاقُ في أولِ مَقْدَمِهِ قد اكتمَلَتْ قرائنُ ظهورِه، وما كلُّ أحدِ يُبصِرُ ما خَفِيَ وبطَنَ مِن صفاتِهم؛ فمِثْلُها لا يُدرَكُ إلَّا بتتبُّعٍ طويلٍ للأحوال، فلمَّا اكتمَلَتْ قرائنُه، وأطَلَّ بقرونِه، وبدَتْ علاماتُه جليَّة، نزَل القرآن ببيانِ أوصافِ أهلِهِ وأفعالِهم وأقوالِهم وتعابيرِ وجوهِهم؛ حتَّى يراهُم كل أحدٍ، ولا يشُكَّ فيهم صاحبُ بصيرةٍ ونظرٍ.
ومِن هذا يُعلَمُ أنه لا ينبَغي للمُصلِحينَ الاشتغالُ بدقائقِ النفاقِ في بلدٍ حديثِ عهدٍ بإسلامٍ واتِّباعٍ؛ لأنَّ مِثْلَهم لا يُدرِكُ ذلك، أو تَبدو منه أفعالُ النفاقِ بجهلِ وَيرتفِعُ بعِلْم، أو بهوًى عارض لا متمكِّنٍ؛ فإن الاشتغالَ بها قد يمكِّنُها في أقوامِ عنادًا، ولم تَكُنْ متمكِّنةً مِن قبلُ.