وكلَّما كان العالِمُ أو الحاكمُ بالمَفاسِدِ أعلَمَ، وبتعدُّدِها أبصَرَ، كان الاعتراضُ عليه ممَّن دونَه أشَدَّ؛ لأنَّه يَرى ما لا يرَوْنَ، ويختارُ ما لا يختارُون، ويَنقُدونَ على ما يَعلَمونَ، ويجبُ عليه أن يَصبِرَ على ما يَعلَمُ، مع بيانِ حقيقةِ ما يَعلَمُ إنْ كان له قدرةٌ على البيانِ، وإنَّما تُؤتى الأممُ وتسقُطُ الدولُ؛ لأنَّها عرَفَتْ جهةً مِن المَفاسِدِ ولم تَعرِفْ جهاتٍ، وضررُها فيما تجهلُ أشَدُّ ممَّا تعلَمُ، فتتجنَّبُ ما تَعلَمُ، وتقعُ فيما تَجهَلُ، تظُنُّها السلامةَ، وهو الهلاكُ.
والعِلْمُ بالمَفاسِدِ عظيمٌ، وهو دقيقٌ لا يُدرِكُهُ كلُّ أحدٍ، وهو خلافُ العلمِ بالمَصالِح، فالنفوسُ تتشوَّفُ إليه وتُقبِلُ عليه.
قولُه تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ﴾ إنَّما ذكَرَ اللَّهُ المساكينَ ولم يَذْكُرْ غيرَهم؛ لأنَّ الظالمينَ يتسلَّطونَ على الضُّعَفاءِ ويترُكونَ الأقوياءَ، ولأنَّ الأقوياءَ ينصُرونَ أنفُسَهُمْ ولا يحتاجونَ غالبًا إلى ناصرٍ، ونُصْرةُ الضعيفِ أعظَمُ ثوابًا مِن نُصْرةِ القويِّ.
وفي هذا: أنَّ المسكينَ قد يَملِكُ مَركَبًا وسفينةً؛ لكنَّها لا تسُدُّ حاجتَهُ ولا تَكفِيه، والفقيرُ أشَدُّ منه حاجةً وأضعَفُ منه قدرةً ويدًا.
ومَن فعَلَ ما فعَلَ الخَضِرُ فهو مُحسِنٌ، وليس بضامنٍ ما أفسَدَ على الصحيح؛ وذلك لِما تقدَّمَ في قولِهِ تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ [التوبة: ٩١].
ذكَرَ اللَّهُ إيمانَ الوالدَيْنِ وكُفْرَ الوَلَدِ، وذكَرَ أنَّ الولدَ لم يكنْ كفرُهُ على نفسِه؛ بل يُريدُ إرهاقَ والدَيْهِ به وبتَبِعَاتِه، وقد جاء مِن حديثِ أُبيِّ بنِ