وأولُ ما يَبدأْ التمكينُ: في الفردِ، ولكنَّ التمكينَ إذا أُطلِقَ في القرآنِ لا يُراد به تمكينُ الأفرادِ؛ وإنَّما يُرادُ به تمكينُ الجماعةِ والأمَّةِ، ومَن ظَنَّ أنَّ الفردَ إنْ تمكَّنَ مِن إقامةِ دِينِهِ، فيعني دلك تمكينَ دِينِه، فقد أخطَأَ؛ ولهذا لمَّا طلَبَ الصحابةُ مِن النبيِّ ﷺ بمكَّةَ قتالَ قريشٍ لمَّا آذَوْهُمْ وفتَنُوهم، منَعَهُمُ اللَّهُ مِن ذلك؛ لعدمِ تمكينِهم؛ كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً﴾ [النساء: ٧٧]، فلم يَجْعَلِ اللَّهُ إقامتَهم للصلاةِ وإيتاءَهم للزكاةِ تمكينًا لجماعتِهم ودَوْلَتِهم، فالصلاةُ والزكاةُ تمكينُ أفرادٍ، والجهادُ تمكينُ جماعةٍ ودَوْلةٍ؛ ولهذا قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: ٥٥]، فقد جعَلَ اللَّهُ تمكينَ أمَّتِهِمْ واستخلافَهُمْ في الأرضِ مُمْسِكينَ بأسبابِها -بعدَ إيمانِهم وعملِهم الصالحِ في أنفُسِهم- فلم يجعلْ مجرَّدَ إيمانِ الأفرادِ وعملِهم الصالحِ تمكينًا واستخلافًا، بل جعَلَ التمكينَ والاستخلافَ بعدَه؛ وذلك أنَّ تمكينَ الأفرادِ يكونُ مع خوفٍ، وتمكينَ الدَّولةِ يكونُ مع أمنٍ؛ وهذا ظاهرٌ في قولِه: ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ [النور: ٥٥]؛ يعني؛ أنَّهم كان زمنُ إيمانِهم وعملِهم الصالحِ الخاصِّ زَمَنَ خَوْفٍ، والتمكينُ كان زمنَ الأمنِ.
ومِن هذا: ما كان عليه موسى؛ فقد كان ومَنْ آمَنَ معه على إيمانٍ وعملٍ صالحٍ، ولم يكونوا على تمكينٍ؛ ولهذا وصَفَهم اللَّهُ بالضَّعْفِ والخوفِ، قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ [القصص: ٥]؛ يعني: موسى ومَن معه، ثمَّ ذكَرَ تمكينَهُمْ بعدَ ذلك، فقال: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص ٦]، فمع إيمانِهم وعملِهم الصالحِ الخاصِّ لم يَجْعَلْهم اللَّهُ ممكَّنِين؛ بسببِ الضَّعْفِ والخوفِ.