ثانيًا: أنَّ خبرَ المجهولِ لا يصحُّ العملُ به، ونقلُهُ مذمومٌ، وكما جاء في الخبرِ:(كَفَى بِالمَرْء إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ماَ سَمِعَ)(١)، وهذا في أحاديثِ الإنسِ، فكيف بأحاديثِ الجانِّ؟ ! وغالبُ ما يُحدِّثونَ به مَن يستعينُ بهم هو مِن الغيبيَّاتِ والظنيَّاتِ التي لا يتمكَّنُ الإنسانُ مِن رؤيةِ حقيقتِها بعَيْنَيْه؛ وإنَّما هي ظنونٌ، وقد يُخبرُ ببعضِ الحقِّ ليَخدَعَ الإنسانَ فيصدِّقَهُ، ثمَّ يَمزُحُهُ بباطلٍ كثيرٍ؛ فيَضِلُّ الإنسانُ بالباطلِ الكثيرِ؛ اغترارًا بالحقِّ القليلِ.
ثالثًا: أنَّ الجانَّ يُعادِي الإنسانَ، بخلافِ الإنسانِ فإنَّه لا يُعادِي الجانَّ، وكثيرٌ منهم شياطين مَرَدَةٌ، ومَن كانتْ هذه حالَهُ، كَثُرَتْ شرورُه، وعَظُمَتْ مَخَاطِرُه؛ قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ [الأنعام: ١٢٨]؛ ولهذا كانت الإنسُ في الجاهليَّةِ تخافُ الجِنَّ وضَرَّها وشَرَّها؛ حتى عَبَدَتها دَفْعًا لِشَرِّها؛ كما قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦)﴾ [الجن: ٦]، وشياطنُ الجانِّ فيهم شرٌّ عظيمٌ على المُسلِمينَ؛ ولهذا ذكَرَ اللَّهُ وقوفَ الجانِّ وإعانتهُمْ للكافِرِينَ على المؤمِنِينَ، وتسليطَهُمْ عليهم، وتَلْقِينَهُمُ الحُجَجَ مِن حيثُ لا يَشعرُونَ؛ قال تعالى: ﴿هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ﴾ [الشعراء: ٢٢١ - ٢٢٢].
رابعًا: أنَّ الغالبَ أنَّ الجانَّ لا يَنفَعُ الإنسانَ إلَّا بما يَستَمتِعُ به منه، فإنْ لم يكنْ له مطلوبٌ في أولِ مرةٍ، فسيكونُ له مطلوبٌ بعدَ ذلك، وقد يَستدرجُ الإنسانَ في نفعِهِ وإخبارِهِ بالغيبِ؛ حتى يعلِّقَهُ به ولا يستطيعَ معه الفَكَاكَ والاستغناءَ عنه، فيطلُبُ منه الجانُّ ما يُريدُ، ويصبحُ الإنسانُ