بينَ أمرَيْنِ عظيمَيْنِ في نفسِه: بينَ أنْ يقدِّمَ للجانِّ ما يُريدُ، أو أنْ يتخلَّى عن مُتْعتِهِ العظيمةِ التي أعطاهُ إيَّاها واعتادَها، وربَّما آتاهُ اللَّهُ جاهًا بها عندَ الناسِ؛ بإخبار عن غيبٍ، أو سيادةٍ، أو منافعَ دنيويَّةٍ كقضاءِ الحاجاتِ ونحوِ ذلك، وأكثَرُ هؤلاءِ يَقَعُونَ في شِرَاكِ التأويلِ؛ فيَبدؤونَ ببَذْلِ ما يُريدُهُ الجانُّ منهمْ تأويلًا ثمَّ كفرًا صريحًا؛ ويَتوهَّمونَ أنَّهم متأوِّلونَ؛ حيثُ أعْمَتْهُم مُتْعَتُهم مِن الجانِّ، ولو زالتْ تلك المتعةُ، لأبْصَروا ما هم ليه مِن كفرٍ وشِرْكٍ بيِّنٍ صريحٍ.
خامسًا: أنَّ الاستعانةَ الدائمةَ بالجانِّ فتنةٌ لا تَنتهي غالبًا إلى حَدٍّ، فمَن تشَرَّبَها قلَّما يُقلِعُ عنها، ولو رأى ضُرَّها عليه مرةً أو مرتَيْنِ، فإنَّه لا يَقدِرُ عليها؛ فلها فتنةٌ على أصحابِها أشَدُّ مِن فتنةِ إدمانِ الخمرِ والمُسْكِراتِ، وقد ذكَرَ بعضُ مَن أَنْجَاهُ اللَّهُ مِن هذا السبيلِ أنَّهم كانوا يظُنُّونَ أنفُسَهُمْ بَقدِرُونَ على الرجوعِ مِن أولِ طريقِهم، فاستُدرِجُوا حتى قيَّدَهم الشيطانُ بفتنتِه، ومَن دخَلَ في هذا البابِ بنيَّةٍ صالحةٍ، وأدرَكَ ما هو فيه مِن بلاءٍ، لا يُصوِّرُ نفسَه أنَّه يَتعاملُ معهم بالشِّرْكِ والكفرِ والمعاصي والشهواتِ، بل يُصوِّرُها للناسِ على أنَّها أبوابُ وَلَايةٍ وكرامةٍ، وعامَّتُهم ليس فيهم عبادةٌ ولا يَشتهِرونَ بديانةٍ بينَ الناسِ؛ فلا يَعرِفُهُمُ الناسُ بكثرةِ صلاةٍ ولا بكثرةِ صيامٍ ولا وَرَعٍ؛ بل منهم مَن يُذكَرُ بخلافِ ذلك، ممَّا يَقطَعُ معه العارف أنَّ الجانَّ لم يَخُصَّهُمْ بذلك كَرَامةً لهم ولا حبًّا لهم في دِينِ اللَّهِ.
سادسًا: أنَّ القولَ بتجويزِ التعامُلِ الدائمِ مع الجانِّ بابٌ يُفتَحُ للسَّحَرَةِ والكهَنةِ للدخولِ فيه بهذه الذريعةِ؛ فلا يُعرَفُ الساحرُ والكاهنُ مِن غيرِه، وهذه فتنةٌ عظيمةٌ، وشرٌّ كبيرٌ.
ولا يُنكَرُ أنَّ السلفَ يَعرِضُ لهم شيءٌ مِن الكَرَاماتِ في هذا