للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذِكْرُ اللهِ كراهةَ القتالِ في هذه الآيةِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾: دليلٌ على أنَّ أحكَامَ اللهِ لا تُؤخَذُ بما تَهْوَى النفوسُ أو تَنفِرُ منه؛ فإِنَّ النفوسَ قد تُحِبُّ ما تُسلِّمُ العقولُ بشرِّهِ؛ فلا يكونُ حلالًا لأجلِ حبِّ النَّفْسِ وقد تكرَهُ النفوسُ ما تسلِّمُ العقول بخَيْرِهِ؛ فلا يكون حرامًا لأجل كراهةِ النَّفْسِ؛ وهذا فيما بينَ النفسِ وعقلِها، مع ضعفِ العقلِ وقصورِهِ عن علمِ اللهِ وإحاطتِه بأحوالِ الأحكامِ ومآلاتِها وآثارِها؛ فكيف بعلمِ مَن لا يَخْفَى عَلَيْهِ شيءٌ، والسرُّ والجهرُ، والخفاءُ والعَلَنُ، والعاجِلُ والآجِلُ، والحاضِرُ والغائِبُ: عندَهُ في العلمِ سواءٌ؟ !

وقولُه تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾: "عسى" في القرآنِ للتحقيقِ والوقوعِ، والمرادُ: ما تكرهونَهُ مِن أحكامِ اللهِ، ففيه الخيرُ الكثيرُ، ولكنْ حالَ دونَ إدراكِ ذلك النفسُ وقصورُ العلمِ.

ومِثلُه قولُه: ﴿وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾؛ يعني: ما تُحِبُّهُ نفوسُكُمْ ممَّا يَنْهَى اللهُ عنه ففيه شَرٌّ لكم غالِبٌ؛ وبيَّنَ العلةَ مِن ذلك بقولِهِ: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.

والمرادُ بما يَكْرَهونَ هنا: هو الجهادُ، وما يُحِبُّونَ: هو القعودُ عنه؛ قاله سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وغيرُهُ مِن السلفِ (١).

وجهلُ البشرِ بسَعَةِ عِلمِ اللهِ وقصورِ عِلْمِهم: هو سببُ ضلالِهم ومخالفتِهِمْ لأمرِ اللهِ؛ لأنَّهم يُدرِكُونَ ما يَعلَمُونَ ويَظُنُّونَهُ كلَّ العِلمِ، ولو عَلِموا ما غابَ عنهم، لاحتَقَرُوا عِلْمَهم وسلَّمُوا لحُكْمِ اللهِ, ولكنِ ابتلاهُمُ اللهُ بإدراكِ ما يعلَمُونَ، ففُتِنُوا فيه، وجَحَدُوا غيرَهُ.

وفي الآيةِ: إثباتٌ مِن اللهِ لمشيئةِ العبدِ، ولكنَّها بعدَ مشيئتِهِ تعالى، فهم قد يُحِبُّونَ ما يَكرَهُ اللهُ، وقد يَكرَهُونَ ما يُحِبُّ اللهُ؛ فيَفعَلونَ ما يَكرَهُهُ، ويَترُكونَ ما يُحِبُّه، مُخالِفينَ أَمْرَ اللهِ؛ لِضَعْفِهم وعِصْيانِهم.


(١) "تفسير ابن أبي حاتم" (٢/ ٣٨٣ - ٣٨٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>