وفي الحثِّ على النفقةِ بفضلِ المالِ: إشارةٌ إلى النهيِ عنِ الخمرِ والميسرِ بلا تصريحٍ؛ فاللهُ نَهَى عنِ الإنفاقِ للهِ بإسرافٍ مع كونِهِ قُرْبةً، فكيف بما يفعَلُهُ الناسُ مِن إهدارِ المالِ لغيرِ اللهِ؟ !
وفي ذلك: أنَّ اللهَ لمَّا حَرَّمَ عليهِم إهدارَ المالِ في الخمرِ والميسِرِ، أرشَدَهُم إلى إنفاقِه؛ وذلك أنَّ بعضَ النفوسِ تميلُ إلى الميسِرِ؛ لفَضْلِ مالٍ عِنْدَهُ وزيادةٍ فيه، فالنفقةُ في ذلك خيرٌ وأَبْقَى مِن الميسِرِ.
وفيه امتحانٌ للنفوسِ؛ فما تُنْفِقُهُ في حرامٍ بحُجَّةِ رضا النفسِ وطِيبِها به، فما تفعلُ فيما يجبُ عليها ويُستحَبُّ؟ ! هل تَطِيبُ النفسُ به وتَدْفَعُهُ فيه كذلك، أم تَشُحُّ وتُمسِكُ؟ !
وفي ذلك: إشارةٌ إلى أنَّ المالَ إذا صُرِفَ في حرامٍ، تعطَّلَتْ مصالِحُ النفقةِ الواجبةِ والمستحَبَّةِ فيه.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى أنَّ إعمالَ الفِكْرِ والعَقْلِ لا يَنتَهِي بالإنسانِ إلَّا إلى مرادِ اللهِ؛ وإنَّما العَيْبُ في قصورِ الفِكْرِ وضَعْفِ النَّظَرِ.
واللهُ يبيِّنُ للناسِ الغاياتِ، ويختصِرُ لهم توضيحَ النهاياتِ؛ ليَصِلُوا بعقولِهِم إليها بإدنى تأمُّلٍ، وأقربِ تفكُّرٍ.
وإنَّما ذكَرَ اللهُ ﴿الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ كما في الآيةِ التالية [البقرة: ٢٢٠]؛ لأنَّ التفكُّرَ فيهما والتوازُنَ بينهما هو طريقُ الوصولِ إلى النتائجِ الحَقَّةِ؛ فالتفكُّرُ في المادِّيَّاتِ - وهي الدُّنيا - مجرَّدًا عن أمرِ الآخِرةِ: يُورِثُ جَهَالةً في الدِّينِ، والتفكُّرُ في أمرِ الآخِرةِ وتعطيلُ التفكُّرِ في منافعِ الدُّنيا: يُورِثُ تعطيلًا للدُّنيا.
(١) "تفسير الطبري" (٣/ ٦٨٩)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (٢/ ٣٩٣).