للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبهذا قال جماعةٌ مِن المُفسِّرينَ؛ كالشَّعْبيِّ وابنِ زيدٍ (١).

وهذا الأمرُ مستقرٌّ عندَهم، ولاستفاضتِهِ ولتسليمِهِمْ به عمَلًا، لم تتداعَ هِمَمُ النَّقَلةِ للتدليلِ عليه مِن كلامِ النبيِّ ، وإنَّما تُذكَرُ أحكامُ الوليِّ على سبيلِ الاعتراضِ والتَّبَعِ والاستطرادِ، ومِن ذلك قولُهُ : (لَا تُنْكَحُ الثَّيِّبُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ) (٢)؛ يعني: أنَّ الذي يُنكِحُها: وليُّها، ولكنَّه حَدَّ مِن حقِّه في ذلك باستئمارِ الثَّيِّبِ، واسئِتذانِ البِكْرِ، فأمرُ الوليِّ مستقِرٌّ، ولكنَّه مَنَعَ الاستبدادَ به؛ حتَّى لا يَضِيعَ في ذلك حقُّ المرأةِ.

والمستقِرُّ حُكْمًا وعَمَلًا في الصدرِ الأوَّلِ: لا يُطلَبُ له دليلٌ قويٌّ، كما يُطلَبُ لغيرِهِ ممَّا يقَعُ فيه خلافٌ، ولا تَعُمُّ به البَلْوَى، وهذه القاعدةُ هي سبَبُ الاضطرابِ عندَ بعضِ الفقهاءِ والمحدِّثينَ في القرونِ المتأخِّرةِ؛ حيثُ لا يفرِّقونَ بين المسائلِ في طلبِ الدليلِ، وربَّما حمَلَهم ذلك على ردِّ السُّنَّةِ بحُسْنِ قصدٍ، وبحُجَّةِ التمسُّكِ بالسُّنَّةِ وتعظيمِها.

وأمَّا استدلالُ مَن يقولُ بصِحَّةِ نِكاحِ الثيِّبِ بلا ولِيِّها، بما ثبَتَ في "الصحيحِ"؛ مِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ؛ قال: قال رسولُ اللهِ : (الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإذْنُهَا صُمَاتُهَا) (٣).

فهذا هو دليلٌ على الوليِّ، لا دليلٌ علي نْفيِه؛ ففي الحديثِ: (أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا)، فأثبَتَ الولِيَّ لها ولم يَنْفِهِ، ثمَّ بَيَّنَ بعدُ المرادَ مِن أحقِّيَّتِها بنفسِها؛ في حُكْمِ البِكْرِ، قال: (تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا)؛ فثَمَّةَ وليٌّ لهما، ولكنَّ البِكْرَ تزوَّجُ بصُمَاتِها، والثَّيِّبَ لا بُدَّ مِن تصريحِها بقَبُولٍ أو عدمِه.


(١) "تفسير الطبري" (١٩/ ١٣٣).
(٢) أخرجه ابن ماجه (١٨٧١) (١/ ٦٠١).
(٣) أخرجه مسلم (١٤٢١) (٢/ ١٠٣٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>