الإثباتِ أقوى منه في النفيِ؛ فالذي يَغِيبُ عن العقلِ أكثَرُ ممَّا يشاهِدُهُ؛ ولذا فهو يتجدَّدُ عِلْمًا كلَّ يومٍ لِسَعَةِ جَهْلِهِ.
والأدلَّةُ دلَّتْ على دخولِ الجِنِّ في جسَدِ الإنسيِّ، وتكلُّمِهِ بلسانِهِ، وتأثيرِهِ على نفسِهِ وبدنِهِ وعقلِهِ، وقد يكونُ المسُّ بدخولٍ في البدنِ، وقد يكونُ بلا دخولٍ؛ كالوسواسِ والخواطِرِ العابرةِ؛ وهذا كما في قولِهِ تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ [ص: ٤١]، وقولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١].
وحقيقةُ الجِنِّ وماهيتُهُ خفيَّةٌ عنِ الإنسانِ؛ فلا مجالَ لنفيِ ما يَغِيبُ عنه، وكثيرٌ مِن الموادِّ التي تسيرُ في بَدَنِ الإنسانِ في عروقِهِ وشرايينِهِ يتعرَّفُ على أنواعِها وأجزائِها كلَّ عامٍ عندَ أهلِ الطِّبِّ، فيَعْرِفُونَ ما لا يَعرِفُه أسلافُهم، وهذا في موادَّ مشاهَدةٍ يُمكِنُ مَعرِفتُها؛ فكيف بشيءٍ يستحيلُ رؤيتُهُ على حقيقتِهِ كالجنِّ؛ حيثُ يَرَى الإنسانَ ولا يَرَاهُ؟ !
ولذا تَجِدُ الجِنَّ مِن العجمِ يتكلَّمُ على لسانِ الأعرابيِّ الذي لا يَعْرِفُ إلا لسانَهُ، فيكلَّمُ الإنجليزيَّةَ والفرنسيَّةَ والفارسيَّةَ، ولم يَسمَعْ بها مِنْ قبلُ.
وقال عبدُ اللهِ ابنُ الإمامِ أحمدَ:"قلتُ لأبي: إنَّ قَوْمًا يَزْعُمونَ أنَّ الجِنِّيَّ لا يدخُلُ في بَدَنِ الإنسيِّ؟ فقال: يا بُنَيَّ، يَكْذِبونَ؛ هو ذا يتكلَّمُ على لسانِهِ"(١).
ودخولُ الجِنِّ للإنسانِ ثابتٌ في النصوصِ والمشاهَدةِ الكثيرةِ في أحوالِ الناسِ، وفي "صحيحِ مسلمٍ"، عن عبدِ الرحمنِ بنِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، عن أبيهِ؛ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قال: (إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ، فَلْيُمْسِكْ
(١) "مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (١٩/ ١٢).