للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

البراءِ وقول أحمد فيه؛ لأنَّ الفاعل عالمٌ بالتحريم، وظهر منه استحلاله، وأنَّه يُريد النِّكاح لا الزنى، وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أنَّ الابن أولى بامرأة أبيه من غيره، فظهر: أنَّ مقصود ناكح امرأة أبيه العقد عليها والزواج منها، لا الزِّنى بها؛ وهذا استحلالٌ؛ كما سبق.

والشافعيُّ إنما جعل مَن عَقَدَ على امرأة أبيه زانيًا، فيقام عليه حدُّ الزِّنى، لا الردَّة؛ لعدم قيام البيِّنة على استحلاله.

والاستحلال لا خلاف فيه عند الجميع، ولكن الخلاف في تحقُّق صورته في الأفعال؛ ولذا فأبو حنيفة يرى أنَّ العقد يُقيم الشبهة على جهل المتعاقدين؛ لأنهما لو أرادا الفاحشة، لما تعاقدا، ولكنَّهما أرادَا النِّكاح المشروع، فأخطأ موضعهُ.

وعلى هذا: فلا خلاف بين قول أحمد وبين غيره من الأئمَّة فيما قامت البيِّنَة على استحلاله من المُحرَّمات بعقدٍ أو بغير عقدٍ: أنَّ فاعله كافرٌ بالله، فإنّ أحمد يُفرِّق بين الجاهل والعالِمِ إذا نكَحَ ذات المحْرم؛ كما في رواية ابنه عبد الله:

قال عبد الله: "سألتُ أبي عن حديثِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رجلًا تزوَّج امرأة أبيه، فأمر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقتله وأخذ ماله؟

قال أبي: نرى - والله أعلم - أن ذلك منه على الاستحلال، فأمر بقتله بمنزله وأخذ ماله" (١).

ويُؤيِّد هذا: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بقتل امرأة الأب التي تزوَّجَها ابن زوجها، ولم يأمُرُ بقتل الوليِّ إن وُجدَ؛ لأنَّ القرينة في قصد الابن بالزواج من امرأة أبيه أنه استحَلَّ: أظهر منه في غيره؛ فدَلَّ على أنَّ الحُكم على المتعاقدين على حرامٍ يختلف باختلاف حالهما في القصد وفي الجهل والعلم.


(١) "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله" (ص ٣٥١ - ٣٥٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>