المدينةِ، وجَدَ أَنَّه انشغَلَ بالعدوِّ الأقرَب، وهم اليهودُ والمنافقونَ، ولم يُكاتِبْ فارسَ والرومَ ولا ملوكَ العربِ إلَّا بعدَ صلحِ الحُدَيبيةِ حينَما أمِنَ قريشًا بالعهدِ عَشرَ سنينَ، وما كتَبَ سوداءَ في بيضاءَ إليهم؛ لأنَّ مُكَاتبَتَهُم تُشْعِرُهُمْ بالاستعداءِ، وأهلُ المدينةِ في زمنِ قلةِ عَدَدٍ، وضَعف عُدَدٍ، وعدوٍّ قريبٍ أحَقَّ بالانشغالِ به.
فانشغَلَ النَّبيُّ بالمُنافِقينَ وتَبْيِينِ صِفاتِهم، ونزَلَت عليه سورتانِ وأربعونَ آيةً لمعالجةِ شرِّهم ونفاقِهم القوليِّ والعمليِّ؛ حتَّى أصبَحُوا أشَدَّ احترازًا في إظهارِ مخالفاتِهم، ويَخافُونَ من الوحيِ أن ينزِلَ فيَفضحَهم؛ لشدةِ تتَبُّعِهِ لأقوالِهم وأفعالِهم؛ حتَّى بلغَ تتبُّعَ حركاتِهم وملامحِ وُجُوهِهم؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [التوبة: ١٢٧]، وكقولهِ: ﴿فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [الأحزاب: ١٩]، وكقولِهِ: ﴿فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾ [محمد: ٢٠]، وهذه كلها تعابيرُ أورَثتهُم خوفًا وترقُّبًا وقلقًا، فلم تُحاصَرِ الأعمالُ والأقوالُ فحَسبُ؛ بل حُوصِرَتْ تعابيرُ الوجوهِ، وأحوالُ العيونِ؛ حتَّى حُوصِرَتِ السرائرُ؛ كما قال تعالى: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [التوبة: ٦٤]، حتَّى بلَغ بخِيَارِ الصحابةِ - مع فَضْلِهم وسَبْقِهم - أنْ خافوا على أنفسِهِمْ مِن أوصافِ النِّفَاقِ، فأخَذ يَسألُ بعضُهُمْ بعضًا، حتَّى سألَ الفاروقُ عمرُ حُذَيفَةَ بنَ اليَمَانِ أمِينَ سِرِّ النبيِّ ﷺ نفسِه.
وانشغَلَ النَّبيُّ ﷺ حِينَها باليهود، وهم العدوُّ القريبُ مع المنافقينَ، فكانتِ الآياتُ والأحكامُ في اليهودِ والمنافِقينَ في السِّتِّ السنواتِ الأولى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute