مِن الهجرةِ أكثَرَ مِن أحكامِ غيرِهم مِن المُشركِينَ والنصارَى، ولم يَخرُجِ النَّبيُّ ﷺ إلى مكةَ مُعتمِرًا في السنةِ السادسةِ إلَّا وقد حَصَرَ النِّفاقَ، وشتَّتَ يهودَ وأَضعفَها.
ولمَّا كان اليهودُ مِلَّةً واحِدةً يَستَقوِي بعضُهم ببعضٍ، فرقَ بينَهم؛ فعاهَدَ قومًا وسالَمَهُم، وعادَى آخَرِينَ وحارَبَهم، وكان أولَ ما بدَأ به يهودُ بَني قَينُقَاعَ، فحارَبَهم في السنة الثانيةِ مِن الهجرة، ثم بَعدَهم بنو النَّضِيرِ في السنة الرابعةِ، ثمَّ بنو قُرَيظَةَ في السُّنةِ الخامسة، ولما شَتَّتَ يهودَ وأضعَفَهم وكسَرَ شَوْكَتُهم، توجَّهَ إلى مكةَ مُعتمِرا؛ لِيُظهِرَ حقَّ المُسلِمينَ في المسجدِ الحرام، ثم مَنَعَتْهُ قريشٌ مِن الدخولِ إليها، وقد تحقَّقَ مقصودهُ مِن إظهارِ قوَّتِه، وكثرةِ أتباعِه؛ حتَّى رأتْهُ قريشٌ فهابَتهُ، فدخَلَ بعدَها بعامٍ بقوةٍ وعزةٍ وأكثرَ تمكينًا.
وكلُّ غزواتِ النَّبيِّ ﷺ قبلَ ذلك كانت دفعًا لِصَولَةِ قريشٍ؛ فبَدرٌ في السنةِ الثانيةِ مِن الهجرة، وأُحُدٌ في السنة الثالثة، والخَندَقُ في السنةِ الخامسةِ.
ومِن ذلك: تَبيِيتُ النَّبيِّ ﷺ لأهلِ دومَةِ الجَنْدَلِ في السنةِ الخامسةِ لمَّا عَلِمَ بكيدِهِمْ والإغارة على قوافلِ المسلِمينَ، ومِن ثمَّ العزمُ على غزوِ المدينةِ، فعاجَلَهُم النَّبيُّ ﷺ قبلَ استطارةِ شرِّهم، فدفَعَهُم في مكانِهم قبلَ أن يُبَيِّتُوهُ.
ولمَّا أمِنَ النبيُّ ﷺ مِن عدوِّه القريب، كاتب عدوه البعيدَ؛ فبدَأ بعدَ الحُدَيبِيَةِ بإرسالِ الرُّسُلِ وترغيبِهم في الحقِّ، وترهيبِهم مِن الباطلِ، وتخويفِهم مِن أمرِ اللهِ عليهم الذي يُجْرِيهِ على يدَيهِ إنْ خالَفُوه.
وقبلَ هذه المُكاتَباتِ كلِّها كان النَّبيُّ ﷺ يُظهِرُ البراءَ مِن المشرِكِينَ