إن القفز من التدرج المعروف في العلمية التربوية أو التوجيهية إلى عملية المعاقبة والضرب أو العنف هو اعتراف بالفشل، ولذلك نجد الكاتب سلمان العمري له مقالة في المجلة العربية عنوانها: العقاب البدني، هل هو أبغض الحلال إلى المربين؟ عنوان يحمل معان جميلة جداً في الحقيقة، فالطلاق حلال، ويباح في كثير من الأحوال، لكن هل معنى ذلك أن أي مشكلة يواجهها الزوج مع زوجته يفزع إلى الطلاق؟! الطلاق حلال، لكن هل يفزع إليه كأول حل؟ لا، آخر العلاج الكي والبتر، لكن لا بد أن يواجه الإنسان المشاكل بطريقة متدرجة، حتى الضرب الذي ورد في القرآن له عملية تدرج وشروط وضوابط إلى آخره.
فما بال بعض الناس يقصدون مباشرة إلى العنف والشدة مع ما لذلك من آثار جسيمة وخطيرة تنعكس على الأسرة والأبناء؟! يقول أحد الباحثين: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، لماذا يلجأ إليها فوراً من أول خطوة؟ لأنه في الحقيقة ينسى أن العقاب هو عملية تربوية، فيحول العملية التربوية إلى عملية انتقام وتشفي، وإهدار للقاعدة التي دائماً نكررها:(طفلك ليس أنت).
معظم الأخطاء التربوية التي تحصل، وكثرة النقد والعنف والشدة التي تنشأ، هي بسبب أنه يجعل عقله مثل عقل الطفل سواء بسواء، ويوازي خبرته بخبرة الطفل، وفهمه بفهمه، وكأنهما أمام ند، لو أنه تفكر قليلاً سيجد أنه ليس نداً! هذا المسكين هو طفل صغير وليس شخصاً كبيراً، حتى لا يوجد هناك تكافؤ عضلي أو جسدي، فهل من المروءة والقوة أن تضرب طفلاً أو تلميذاً بهذا العنف لأنك أكبر منه؟! ولذلك تجد الطالب المراهق إذا عومل بهذه المعاملة، وعنده عضلات وهو قوي، ربما يضرب المدرس؛ لأنه يجد لديه إحساساً بالكفاءة، وأن له القدرة على ضربه، أما الطفل المسكين فماذا يعمل؟ وكيف يدافع عن نفسه؟ وهكذا رجل يضرب امرأة، فهل هذه مروءة؟! عندما يضرب إنسان امرأة بغاية العنف وغاية القسوة، كأنه يصارع ملاكماً؛ هذه دناءة وخفة عقل وقلة مروءة، لماذا تستعرض عضلاتك على امرأة؟! هل هذا هو الضرب الذي ورد ذكره في القرآن؟! هذه قضية ناقشناها من قبل بالتفصيل، وإذا كانت هناك فرصة ناقشناها أيضاً، وهذه قضية مهمة، وينبغي أن نفهم هذا الموضوع بطريقة صحيحة، لكن لا يمكن أن الشرع يبيح أن تضرب المرأة ضرب غرائب الإبل، أو ضرب العبيد، بهذه الطريقة التي يتصورها بعض الناس.
فالشاهد أن العقاب عند بعضهم يتحول من عملية تربوية إلى عملية تشفي، صدره يغلي من خطأ ارتكبه هذا الطفل، أو هذا الصبي، فيفزع إلى الضرب وهو في غاية العصبية لأجل الضرب وليس التربية، هدفه أن يشفي غليله، ويطفئ نار الثورة في قلبه، فيظل يضرب إلى أن تهدأ ناره، ويهدأ هو؛ فيطلق هذه الشحنة في جسد هذا الصبي بالضرب والتعذيب الذي يحصل! وبالتالي يمكن أن يكسر له عظماً، أو يسبب له العمى كبعض الحوادث، أو يكسر له بعض أطرافه كيداه كما حصل في حوادث كثيرة جداً نتيجة إيذاء الأطفال، وبسبب أن الهدف ليس الهدف التربوي، هو لا يضرب لمصلحة الطفل، ولكنه يضرب لكي يشفي غليله.
الشرع الشريف يمنع المربي أن يعاقب بالضرب وهو غضبان، وهذا أهم شرط: أنه لا بد أن يكون المربي في غاية الاتزان والرزانة والهدوء بحيث يوقن أن الطفل سوف ينتفع بالعقاب، وأن الهدف هو معالجته ومداواته، وتحسين خلقه أو أدائه، ليس الهدف الانتقام، هناك فرق كبير، فلا نحتج بالنصوص الشرعية ونحن منحرفون عن الشرع في تطبيق هذا الأمر؛ لذلك كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه وتوقف ثلاثة أيام، إلى أن تهدأ أعصابه ثم يصدر الحكم عليه وهو خال من الغضب والثورة، وحتى يضمن أن عنصر التشفي وشفاء الغليل غير موجود عند إصداره هذا الحكم.
فلماذا نفزع إلى اختصار الطريق بالضرب؟ لأننا نفشل في الأساليب الحقيقية في مواجهة المشاكل، ولا نسلك المسالك التربوية الصحيحة؛ لذلك يقول بعض الباحثين في بحث بعنوان:(الحب أولى من العقاب): إنك تستطيع أن تعالج اعوجاج الطفل بالمحبة والعطف والحنان، ويأتيك بثمار أعظم بكثير جداً مما تتوقعه من العقاب الذي ربما يأتي بأضرار كثيرة يقول: إن لجوء الوالد أو المدرس إلى العقاب يعتبر اعترافاً بالهزيمة، مؤداه: أنه لم يتمكن من تحقيق أغراضه باستعماله أي وسيلة أخرى، أي: أنه عجز عن توجيهه وجهة حسنة، أو معاونته على تنفيذ ما يتوقع منه بأي طريقة أخرى.
لذلك فإن استخدام العقاب ما هو إلا مبرر للفشل، وعدم وجود ما يقوم مقامه لدى المربي معناه: أن جعبة هذا المربي خاوية، وليس عنده علم، ولا خبرة، ولا حكمة، لا بشرع، ولا بآداب شرعية، ولا حتى بآداب تربوية يتفق عليها العقلاء أجمعون؛ ولذلك لجأ إلى آخر وسيلة وهي العنف والشدة؛ لأنه عاجز عن أن يستخدم الوسائل التربوية الأصلية.