[العلم بالله وبشرعه أشرف العلوم]
إن العلم الذي ينبغي أن ينصرف إليه الفهم -عندما تطلق كلمة العلم أو العلماء في القرآن أو السنة- هو العلم الذي هو أشرف علم في الوجود، وهو: العلم بالله، وبدين الله تبارك وتعالى، وبأحكام هذا الدين.
فهذا العلم هو الذي جاءت به الرسل لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهو الذي حواه كتاب الله العزيز، وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم.
فعلم الدين هو أشرف العلوم على الإطلاق، فشرف العلم يكون بشرف المعلوم يعني: أن العلم يأخذ مرتبته في الشرف بحسب المعلوم الذي يتعلم عن طريق هذا العلم، ولا شك أن علم الطب مثلاً أشرف من علم الحشرات، مع أن هذا علم وهذا علم، لكن حتى علوم الدنيا تتفاضل؛ لأن هذا موضوع الحشرات، أما ذاك فموضوعه رأس مال الإنسان في هذه الحياة، وهو الصحة، وهكذا تتفاوت العلوم بحسب شرف موضوعها.
فعلوم الدين بلا شك هي أشرف من علوم الدنيا، ثم إن علوم الدين نفسها تتفاوت في الشرف: فمنها علوم خادمة، ومنها علوم مخدومة، فالعلوم الخادمة التي هي علوم الوسائل: كعلم النحو، والصرف، واللغة، ونحو ذلك من العلوم التي هي آلات في فهم الكتاب والسنة، أما العلوم المخدومة فهي الأشرف: كعلم الفقه، وعلم الحديث، وعلم التفسير، ونحو ذلك من علوم الشرع الكريم، لكن أعظم علم فيه على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه إذا كان شرف العلم بشرف المعلوم فإن علم التوحيد موضوعه هو معرفة الله سبحانه وتعالى؛ فبه نعرف الله عز وجل؛ ولأجل ذلك فإن العلم بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله عز وجل وبتوحيده هو أشرف العلوم على الإطلاق في هذا الوجود، فأشرف العلوم الشرعية هو العلم بأسماء الله الحسنى، وصفاته العلى؛ لتعلقها بأشرف معلوم وهو الله سبحانه وتعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة.
يعني: أن الآيات التي فيها صفات الله عز وجل، وأسماؤه الحسنى أكثر بكثير جداً من الآيات التي فيها نعيم الجنة من الأكل والشرب والنكاح وغير ذلك، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد، فأعظم آية في القرآن الكريم هي آية الكرسي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:٢٥٥]، إلى آخر آية الكرسي، فضرب بيده في صدره وقال: ليهنك العلم أبا المنذر!)، وهذا الحديث رواه مسلم، وهو دليل على أن أشرف آية في القرآن الكريم كله هي آية الكرسي، وإذا تأملنا آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن الكريم نجد أنه ليس فيها أمر ولا نهي، ولا حلال ولا حرام، وليس فيها إلا الإخبار عن صفة الله، وما الذي يليق به فنثبته له، وما الذي لا يليق فننفيه عنه عز وجل، فقوله: (الله لا إله إلا هو) (لا إله) هذا هو الكفر بالطاغوت، (إلا هو) إثبات التوحيد لله عز وجل، وهكذا بقيتها في صفة الله عز وجل، قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:٢٥٥].
وكذلك أفضل سورة في القرآن الكريم هي سورة الفاتحة، كما ثبت ذلك في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح حين قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها -أي: مثل سورة الفاتحة-، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته)، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد، كما هو معلوم.
وقد ثبت في الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تعدل ثلث القرآن، وليس في: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) التي لها هذه المنزلة العظيمة أو العظمى سوى الإخبار عن صفة الله سبحانه وتعالى، وكيف نعرف الله.
وكما نلاحظ أن المعرفة بالله سبحانه وتعالى منصبة على أسلوب التلقين؛ لأن الله لا نعرفه بالعقل، كما يشيع على ألسنة بعض عوام الناس؛ حيث تسمع منهم من يقول: ربنا عرفناه بالعقل، فنتدبر بالعقل في آيات الله وفي صفات الله، وصفات الله سبحانه وتعالى قد تعرف عن طريق التأمل في آياته التي تدل على توحيده، لكن معرفة الله أساساً إنما تكون عن طريق الوحي الذي أوحاه إلى أنبيائه، فبه يتعرف العباد على ربهم، فيتعرفون أن له تسعة وتسعين اسماً من الأسماء الحسنى، وأنه على العرش استوى، وأن له كذا، وأنه يحب كذا، وأنه يبغض كذا، وهكذا، فهذا يأتي عن طريق التلقين، وليس عن طريق الاجتهاد العقلي؛ لأن العقل لا يمكن أبداً أن يدرك صفات الله سبحانه وتعالى، ولا ما هي أسماء الله، ولا غير ذلك، بدليل أن أسماء الله عز وجل كثيرة لا تسعة وتسعين، لكن الذي أخبرنا به هو التسعة والتسعون، قال صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً من حفظها دخل الجنة)، وقال عليه الصلاة السلام في الدعاء: (أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، فهذا يدل على أن لله أسماء لم نطلع عليها، ولا سبيل إلى الاطلاع عليها؛ لأن السبيل الوحيد هو الوحي، وقد انقطع الوحي، وهي غير موجودة فيما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر الصحابي الذي كان يختم القراءة في الصلاة في كل ركعة بـ (قل هو الله أحد)، فسأله عن سبب ذلك؟ فقال: إني أحبها؛ لأنها صفة الرحمن، فأخبره عليه الصلاة والسلام: بأن الله سبحانه وتعالى يحبه) والحديث متفق عليه، فبين أن الله يحب من يحب الثناء عليه بذكر صفاته وأسمائه عز وجل، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يذكر بهذه الصفات العظمى والأسماء الحسنى.