[ضرورة استمداد الحقائق التاريخية من القرآن الكريم]
إن القرآن الكريم وحده فقط هو مصدر معرفة حقيقة تاريخ هذه العقيدة، فليس هناك كتاب في الأرض يوضح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله تبارك وتعالى، ففيه علم غزير في هذا الموضوع.
وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً للأسباب التالية: الأول: أن ما نعرفه من التاريخ البشري قبل خمسة آلاف عام قليل، أي: لو أردنا أن نتعرف على حقائق التاريخ البشري فقط منذ خمسة آلاف سنة صعُب علينا جداً أن نصل إلى الأمور على حقيقتها.
وأما ما نعرفه من أحداث لهذا التاريخ البشري قبل عشرة آلاف سنة فأقل من القليل، أما قبل ذلك فهي مجاهيل لا يدري علمُ التاريخ عنها شيئاً، لذا فإن كثيراً من الحقائق ضاع بضياع التاريخ الإنساني.
السبب الثاني: أنّ الحقائق الموجودة لدينا عن تواريخ الأمم السابقة اختلطت بباطل كثير، بل ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف.
وأقرب دليل على ذلك أنك لو أردت أن تؤرخ لتاريخ جماعة معينة أو شخصية معينة حتى من العصر الحديث الذي نعيشه، لشق عليك أن تدرك الحقائق على ما هي عليه؛ لأنّه يدخلها الكثير من التحريف والدجل والأغراض الخبيثة التي تحاول أن توجه هذه الأمور لخدمة أشياء معينة.
فكيف نصل إلى حقائق تاريخ يمتد إلى الفجر الأول لهذا البشرية.
السبب الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل وقع في السماء، وذلك ما وقع من خلق آدم عليه السلام، فإننا نرجع إلى فجر البشرية، وهذا بدأ بخلق آدم عليه السلام، ثم خلق حواء، ثم نزولهما من الجنة إلى الأرض.
فمن أين سنصل إلى الجنة حتى نأتي بذلك التاريخ؟! وذلك إذا قلنا: إنها جنة المأوى.
إذاً: فالذي يستطيع أن يمدنا بتاريخ حقيق لا لبس فيه هو الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
فلنتأمل في كتاب الله تبارك وتعالى، ولنأخذ هذه الحقائق بطريقة علمية موضوعية.
أول هذه الحقائق التي نستنبطها من القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم عليه السلام منذ البداية خلقاً سوياً مستقلاً مكتملاً، فآدم عليه السلام لم يتطور من غيره، وقد حطمت العلوم الحديثة فكرة التطور تماماً، فصارت الآن هذه الفكرة خرافة، خاصة بعد تطور علم الوراثة وعلم الجينات، فقد انهارت تماماً نظرية دارون الدجلية من أصلها.
فنحن نؤمن من خلال القرآن أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم منذ أول لحظة خلقاً كاملاً سوياً مستقلاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأنه خلقه لغاية محددة وهي عبادة الله تبارك وتعالى وحده، وأنه عليه السلام خلق مؤهلاً لذلك، فقد كانت عنده أهلية كأكمل ما تكون عليه الأهلية؛ حتى يخاطب بتكليف الله سبحانه وتعالى، ولم يكن أبله، وكذلك لم يكن متخلفاً عقلياً أو شبيهاً بالوحوش وقرود الشمبانزي والغوريلا، بل خلق آدم عليه السلام في أكمل صورة، والدليل على أنها كانت أكمل وأجمل صورة، أن أهل الجنة يدخلون الجنة على صورة أبيهم آدم.
إذاً: فآدم عليه السلام خلق مؤهلاً للخطاب الإلهي، ولم يتركه سبحانه وتعالى لفكره كي يتعرف على ربه بطريقة التفكير والتأمل، بل عرفه سبحانه وتعالى على نفسه منذ البداية، فآدم عليه السلام منذ أول لحظة كان يعرف ربه، فالله سبحانه وتعالى عرفه على نفسه، ولم يترك له فرصة أن يتأمل ويتدبر في السماوات والأرض وفي المخلوقات؛ حتى يهتدي إلى التوحيد عن طريق التفكر والتأمل.
فقد دلت آيات القرآن المجيد على أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، فتميز آدم على الملائكة بهذا العلم الذي علمه الله إياه، ثم أسكنه الله تعالى الجنة هو وزوجه، يقول عز وجل: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:٣٥]، فقول الله عز وجل: (يَا آدَمُ اسْكُنْ) هذا تكليف، وقوله (وَلا تَقْرَبَا) أي: لا تفعلا، فهذا يدل على أنه مؤهل لأن يخاطب.
فهل يخطر في بال عاقل أن يكون هذا المخلوق المكرم المعلم بالأسماء كلها لم يعرف الله سبحانه وتعالى؟! وآدم عليه السلام يرى الملائكة يسبحون الله ويحمدونه ولا يفترون عن ذكره، مع أن الله سبحانه وتعالى أمره وزوْجه بسكنى الجنة، والأكل من حيث شاءا إلا شجرة واحدة نهاهما عنها وحذرهما من قربها.
وقد أخبر الله تعالى آدم عليه السلام بعدوه وعدو زوجه إبليس لعنه الله، وأن مغبة طاعة إبليس خروجهما من الجنة، وحصول الشقاء لآدم {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:١١٧] فهذا تعليم وتحذير.
وآدم عليه السلام لم يعصِ الله سبحانه وتعالى متعمداً، يقول عز وجل: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:١١٥]، وقال سبحانه وتعالى حاكياً عن فعل إبليس: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:٢١].
وقد جاء في كتب التفسير: أنّ آدم عليه السلام صدق إبليس قوله: (وَقَاسَمَهُمَا) أي: حلف لهما: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ).
{قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:١٢٠]، فكان أبونا آدم يحب أن يبقى في الجنة، فأتاه إبليس من باب الحرص، وقال له: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى) فحلف لهما أنه صادق، فلم يتخيل آدم وحواء عليهما السلام أبداً ولم يرد على خاطرهما أن مخلوقاً يحلف ويقسم بالله ويكون كاذباً، فهذا غير وارد عندهما؛ ولذلك صدقاه، ولم يتذكرا تحذير الله سبحانه وتعالى لهما من قبل.
قال تعالى: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف:٢٢].
وجاء في الحديث الصحيح: (أن آدم عليه السلام لما سقطت الثياب عنه وبدت له سوأته، ظل يجري ويتوارى، فقال الله سبحانه وتعالى له: تفر مني، فقال آدم -كما في معنى الحديث-: رب إني استحييت!) أي: أنه استحيا من الله سبحانه وتعالى، ومعنى هذا أنه كان مدركاً، وكل ذلك يدل على أن الإنسان الأول كان في أكمل درجات الوعي والإدراك والأهلية للتكليف بالتوحيد، وعبادة الله سبحانه وتعالى.
وبعد ما حصل من مخالفة آدم وحواء عليهما السلام قال تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:١٢١]، أي: أدرك آدم وحواء بعد وقوعهما في المنهي عنه أثر المعصية وشؤمها، فندما على ما حصل منهما، وتوجها إلى الله تعالى طالبين مغفرته ورحمته، معترفين بالذنب وبظلم النفس، قال عز وجل عنهما: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:٢٣].
فهل هذا كلام من يعرف ربه، أم أنه كلام من يمشي كالغوريلا والشمبانزي، ويفكر مثلهما؟! إنّه كلام موحّد يعرف ربه كأكمل ما تكون المعرفة، فهو نبي عليه السلام.
وقال عز وجل في الآية الأخرى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:٣٧].