المأخذ الثاني: شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية.
فقد كان أبو حامد رحمه الله يعظم المنطق، رغم بعض النقد الذي وجهه إليه، واستطاع أن يدخله في علوم الإسلام؛ بل جعل تعلمه فرض كفاية على المسلمين.
وفي النبوة اقتفى الغزالي أثر الفلاسفة بعامة وابن سينا بخاصة، وتلمح في أبي حامد شخصية فيها ذكاء ونبوغ لا ريب فيهما، وفيها رغبة في معارضة الغزو الثقافي الدخيل على المسلمين، كما ظهر ذلك جلياً في كتابيه العظيمين: تهافت الفلاسفة، وفضائح الباطنية، وتراه مع ذلك في أكثر كتبه تابعاً للفلسفة اليونانية والتصوف الهندي الشرقي، رغم أنه أراد أن يهدم هذه المذاهب، إلا أنه لم يسلم من دخنها، ووقع في بعض مؤاخذاتها، حتى قال فيه تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع.
وهذا يذكرنا بنصيحة شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الإنسان لا يفني عمره في تتبع الفرق الضالة والانحرافات الفكرية لأن القلب لابد أن يتصرف وأن يتوه ويعلق به كثير من مفاسد هذه الضلالات، يقول: وإلا كان قلبك مثل الإسفنجة، فإن الإسفنجة كلما ألقيت إليها قطرة تتشربها وتتشبع بها حتى تمتلئ بالشبهات، فلذلك يقول الإمام أبو بكر بن العربي في شيخه: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة ثم أراد أن يتقيأهم فما استطاع.
وفي مكان آخر: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة فأراد أن يخرج فما استطاع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما وقع في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه -أي: الشيخ أبو حامد - ما هو من جنس كلام الفلاسفة في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك، اشتد نكير علماء الإسلام على أبي حامد لهذا الكلام، وتكلموا في أبو حامد وأمثاله بكلام معروف.
وممن انتقد أبا حامد وتكلم فيه أصحاب أبي المعالي كـ أبي الحسن المرغياني وغيره، وأهل بيت القشيري وأتباعه، والشيخ أبو البيان، وأبو الحسن بن سكر، وأبو عمرو بن الصلاح، وأبو زكريا النووي، وأبو بكر الطرطوسي، وأبو عبد الله المنذري، وابن حمدين القرطبي، وأبو بكر بن العربي تلميذه، وأبو الوفاء بن عقيل، وكان من أشد الناس على أبي حامد أبو الفرج بن الجوزي، وأبو محمد المقدسي، والخرزي وغيره من أصحاب أبي حنيفة.
إذاً: حينما نتكلم في دراسة نقدية لفكر الغزالي ولكتابه إحياء علوم الدين خاصة، نقول: لسنا أول من قرع هذا الباب من أولي الألباب؛ بل لنا سلف قاموا على شرف المناضلة والذب عن الشريعة الغراء، مع احترامهم وحبهم للإمام الغزالي، وحسن ظنهم به رحمه الله تعالى.