[انحراف الصوفية في العبادة والمحبة]
أيضاً: انحرف الصوفية بمزيد من الشطحات والانحرافات، حيث صرفهم الشيطان عن طلب أعظم ما وعد الله سبحانه وتعالى به عباده بدعوى المحبة والإخلاص في التعبد، فيقولون: نعبد ربنا حباً فيه فقط، لكن لا نعبده خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته! فاختلت عندهم الموازين، وظنوا أن الرجاء والخوف من الله سبحانه وتعالى يخل بالعبودية الصحيحة.
يقول أبو يزيد البسطامي: ما النار؟ لا أفهمها، لأستندن عليها غداً وأقول: اجعلني فداء لأهلها وإلا بلعتها! أستغفر الله أستغفر الله! ويقول: ما الجنة؟ لعبة صبيان ومراد أهل الدنيا.
ولا يكتفي بتحقير ما عظمه الله سبحانه وتعالى؛ بل لما سأله أحدهم أن يحدثه بشيء من كراماته قال له: أدخلني الله في الفلك الأسفل، فدورني في الملكوت السفلي وأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فصوت لي في السماوات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه فقال: سلني أي شيء رأيته حتى أهبه لك، فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئاً فأسألك إياه! كل هذا لم يعجبه شيء منه والله المستعان، وهذه كلها موجودة عند الغزالي تحت فصل: حكايات المحبين، أي: الذين لا يعبدون الله خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنة؛ لكن حباً فيه.
وهذا التصرف من الصوفية جعل من بعدهم يبنون على هذه المفاهيم الاستخفاف والاستهانة بالنار وبعذابها، حتى إنهم قالوا: إن عذاب النار مشتق من العذوبة، فيقول ابن عربي في حق أهل النار: وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين نعيم جنان الخلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين يسمى عذاباً من عذوبة لفظه وذاك له كالقشر والقشر صاين وهذا الملحد ابن عربي يفسر قوله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:٢٤]، فيقول: (عذاب) هنا مشتقة من العذوبة والريح من الراحة، {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف:٢٤] يقول: إن الريح هاهنا إشارة إلى ما فيها من الراحة، فإن بهذه الريح أراحهم الله من هذه الهياكل المظلمة.
وهذه درجة أحط من درجة احتقار الجنة والنار، فالصوفية الأوائل بنوا المذهب على أن تعبد الله حباً فيه -وهذه زندقة- لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته؛ فأتى ابن عربي فيما بعد وأسس المذهب الأحط من هذا، وهو أن عذاب النار في ذاته نعيم وراحة وعذوبة.
يقول: وفي هذه الريح عذاب، أي: أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، ويسألون الله أن يذيقهم هذه العذوبة، ولما قرأ البعض كلام ابن عربي قال: الله يذيقكم هذه العذوبة، يقصد هؤلاء الصوفية.
وقد قال الحلاج قبل ابن عربي: أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب فاستجاب الله له فمات مصلوباً، {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:١٢٧].
ولا شك أن هذه التصرفات إنما نشأت بسبب أنهم لا يعبدون الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، لكن يزعمون المحبة، وكما قال بعض السلف الصالح -وهذا محكي عن مكحول الدمشقي -: من عبد الله بالخوف فهو حروري -أي مثل الخوارج- ومن عبده بالرجاء فهو مرجئي أو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو مؤمن موحد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الموحدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.