[رفع الشرع لمكانة المسجد الأقصى وبيت المقدس]
أضفى الإسلام على المسجد الأقصى وبيت المقدس مزيداً من القدسية والشرف، حتى إن القرآن الكريم جاء فيه وصف أرض بيت المقدس بصفات البركة والطهر والقدسية، يقول تبارك وتعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:٢١]، فوصفها بالقداسة والطهارة، وقال عز وجل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:١٣٧]، فوصفها أيضاً بالبركة، وقال أيضاً: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه} [الإسراء:١]، وقال عز وجل أيضاً في شأنه: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:٧١]، وقال عز وجل: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:٨١]، وقال عز وجل أيضاً: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:٣٠]، وقال تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:١٨]، وهي الشام، {قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:١٨].
وقد أشارت آيات القرآن أيضاً إلى قدسية هذه الأرض حينما أقسم الله عز وجل بها في سورة التين: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:١ - ٣]، وقال عز وجل في شأن عيسى عليه السلام وأمه: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:٥٠].
قال قتادة وكعب والسدي: إن هذه إشارة إلى بيت المقدس.
وقال تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:٤١]، ورد في التفسير أن المنادي هو: إسرافيل ينادي من صخرة بيت المقدس.
وفي قوله تبارك وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:٣٦]، قال عكرمة: إنها المساجد الأربعة: المسجد الحرام، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس.
وفي تفسير قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:١١٤] قال كثير من المفسرين: هو مسجد بيت المقدس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وقد دل الكتاب والسنة وما روي عن الأنبياء المتقدمين مع ما علم بالحس والعقل: أن الخلق والأمر ابتدأ من مكة أم القرى، فهي أم الخلق، وفيها ابتدأت الرسالة المحمدية التي طبق نورها الأرض، وجعلها الله قياماً للناس، إليها يصلون ويحجون، ويقوم بها ما شاء الله من مصالح دينهم ودنياهم.
فكان الإسلام في الزمان الأول ظهوره بالحجاز أعظم، ودلت الدلائل المذكورة على أن ملك النبوة سيكون في الشام، والحشر إليها، فإلى بيت المقدس وما حوله يعود الخلق والأمر، وهناك يحشر الخلق، قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الحشر:٢]، والمقصود بها: الشام.
فيحشر الخلق إلى الشام، والإسلام في آخر الزمان يكون أظهر بالشام كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن مكة أفضل من بيت المقدس فأول الأمة خير من آخرها، كما أنه في آخر الزمان يعود الأمر إلى الشام، كما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.
وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء في ليلة الإسراء إقراراً مبيناً بأن الإسلام هو الرسالة الخاتمة، والوحي الأخير إلى البشر، وكان تمامها على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن وطأ لها العباد الصالحون من رسل الله الأولين.
وكان في الإسراء أيضاً دلالة على أن آخر صبغة للمسجد الأقصى في شرع الله هي الصبغة الإسلامية، فاستقر نسب المسجد الأقصى إلى الالتصاق بالأمة التي أم رسولها سائر الأنبياء.
ولا شك أن في اقتران الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى بالمسجد الأقصى دليلاً باهراً على مدى ما لهذا البيت من مكانة عند الله تعالى، ودليل كذلك على صحة القول: بأن المسجد الأقصى في المركز الذي لا يصعد إلى السماء إلا منه، ولهذا فإن الناس يحشرون هناك، وينصرفون من تلك الأرض إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
وقد ردت أيضاً أحاديث كثيرة بجانب هذه الجملة من الآيات في فضل وشرف بيت المقدس والمسجد الأقصى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد -يعني: مكان المسجد- فصليت فيه ركعتين، ثم عرج بي إلى السماء) رواه مسلم.
وعن جنادة بن أبي أمية الأزدي قال: ذهبت أنا ورجل من الأنصار إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر في الدجال، فذكر الحديث وفيه: قال عليه الصلاة السلام: (وعلامته -أي: الدجال-: يمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة، ومسجدي -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى، والطور) رواه الإمام أحمد في مسنده، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات.
وفي الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه -يعني: مخلصاً لله- إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، قال صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أيضاً ابن ماجة في سننه.
وعن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس؟ قال: أرض المحشر والمنشر- يعني: الأرض التي يكون فيها الحشر والنشور- ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه، قال: أهدي له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل فهو كمن أتاه) رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة، وقال في (مصباح الزجاجة): وإسناد طريق ابن ماجة صحيح، ورجاله ثقات، وهو أصح من طريق أبي داود.
وعن ذي الأصابع رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إن ابتلينا بعدك بالبقاء -طول العيش- فأين تأمرنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: عليك ببيت المقدس؛ فلعله ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون) رواه الإمام أحمد والطبراني في الكبير، وفيه ضعف.
وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة، أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة، قال: كيف تصنع إن أخرجت من مكة، قال: قلت: إلى السعة والدعة، إلى الشام والأرض المقدسة، قال: وكيف تصنع إن أخرجت من الشام، قال: قلت: إذاً والذي بعثك بالحق! أضع سيفي على عاتقي) رواه الإمام أحمد والطبراني ورجاله رجال الصحيح، إلا أن أبا السليل ضريب بن نقير لم يدرك أبا ذر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حوله، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة) رواه أبو يعلى، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم، إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) رواه الإمام أحمد والبزار وقال ابن حجر: سنده صحيح.
وعن أبي حوالة الأزدي رضي الله عنه قال: (وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسي أو على هامتي ثم قال: يـ ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت بالأرض المقدسة فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب إلى الناس من يدي هذه من رأسك) رواه الإمام أحمد و