للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أدلة دفع الصائل]

الدليل على مشروعية هذا المبدأ قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٩٤] فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة التزام مبدأ المماثلة أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، فهذا دليل من القرآن على وجوب احترام هذه القاعدة، وهي قضية التدرج وعدم الأخذ بالأثقل مع إمكان الدفع بالأسهل، يقول تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:١٩٤] يعني: ولا تزيدوا عن المثلية، {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة:١٩٤].

فالأمر بالتقوى دليل على ضرورة أخذ مبدأ المماثلة، أو التدرج في الأخذ بالأخف فالأخف، أما السنة فقد ذكرنا حديث سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة الذي صدرنا به الكلام، وهناك جملة أخرى من الأحاديث، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه).

فلما كانت هذه العين خائنة أصبحت هدراً، وإنما شرع هذا أساساً لأجل البصر، وحتى لا تقع عيون الناس على عورات البيوت، فإذا كان هذا يدخل بعينه عن طريق النظر من خلال الثقوب أو غير ذلك فكأنه دخل؛ لأن العبرة بوضع الأبواب والستائر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، فإذا كان قد انتهك حرمة البيت وامتدت عينه الخائنة إلى عورات الناس في بيتهم فإنهم إذا فقئوا عينه بأي آلة وهو ينظر من هذا الثقب فإن عينه هدر ولا قصاص هنا في هذه الحالة؛ لأنه معتد بانتهاكه حرمة بيوت الآخرين، وهذا نوع من الصيال والعدوان على الناس.

ومن هذه الأحاديث -أيضاً- أن رجلاً عض يد رجل، فنزع يده من فيه بشدة فوقعت ثنيتاه، أي أن الثاني عض يد صاحبه بشدة لدرجة أن الثنيتان انكسرتا ووقعتا، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (يعض أحدكم يد أخيه عض الفحل! لا دية لك) أي: أنت الذي تسببت في ذلك وعضضته وهو يدفع عن نفسه ويحاول أن يخلص يده.

فلذلك أهدر هاتين الثنيتين ولم يوجب عليه الدية.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل فقال: (يا رسول الله! أرأيت إن عدى على مالي؟! قال: انشد الله) يعني: انشده بالله، واستحلفه بالله أن يتركك ومالك ولا يعتدي عليك، قال: (فإن أبو علي) أي: فعلت ثم أصروا على أن يعتدوا على مالي، قال: (قاتل، فإن قُتلت ففي الجنة، وإن قَتلت ففي النار) أي: الذي قتلته يكون في النار.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فيه من الفقه: أنه يدفع بالأسهل فالأسهل.

وروى يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: (كان لي أجير، فقاتل إنساناً فعض أحدهما صاحبه، فانتزع أصبعه فأنزل ثنيته -يعني: أزال ثنيته التي هي أسنان مقدم الفم- فسقطت، فانطلقا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته، وقال: أيدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل؟!) أي: أتريد أن يتركك تقضم يده وتقطعها كما يفعل الفحل؟! فهو يدافع عن نفسه وينتزع يده حتى ينجيها وينقذها.

فهذا فيما يتعلق بمبدأ الدفاع عن النفس الدفاع الشرعي أو دفع الصائل.

ويدخل في دفع الصائل وفي الدفاع الشرعي -أيضاً- الدفاع عن الأخرين، والدليل على جوازه وأساس هذا المبدأ هو الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، والحرمة في المجتمع الإسلامي تشمل اثنين: المسلم والذمي؛ لأن عهد الذمة الذي يعهده الإمام لأهل الذمة ينبغي أن يحترم ولا ينتهكه أحد، فيعتبر محترماً أو معصوماً، بمعنى أنه لا يجوز الصيال ولا الاعتداء على ماله أو عرضه ونحو ذلك.

فأساس هذا المبدأ أو جواز الدفاع عن الآخرين هو: الحفاظ على الحرمات مطلقاً من نفس أو مال، ولولا التعاون لذهبت أموال الناس وأنفسهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.

قيل: كيف أنصره ظالماً؟ قال: تحجزه عن الظلم، فإن ذلك نصره).

وقال عليه الصلاة والسلام: (من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذله الله على رءوس الأشهاد يوم القيامة).

فهذا شيء مما يتعلق بالأدلة على مشروعية مبدأ الدفاع سواء عن النفس أو عن الآخرين، فتعتبر أفعال الدفاع مباحة باتفاق الفقهاء، فلا مسئولية على المدافع من الناحيتين المدنية والجنائية إلا إذا تجاوز حدود الدفاع المشروع، فيصبح عمله جريمة يسأل عنها مدنياً، ويحاكم من أجلها، ويعاقب ويتحمل المسئولية.